* أفريقيا في حسابات الأمن القومي الإسرائيلي: تعتمد استراتيجية أية دولة من الدول على مقومات أساسية أهمها :العقيدة السياسية التي يقوم عليها النظام السياسي في هذه الدولة, والوضع الجيوستراتيحي للإقليم الذي توجد عليه, والموارد الطبيعية, وعدد السكان ودرجة التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي, ثم القوة العسكرية. ولكل دولة سواء كانت صغيرة أو متوسطة أو كبرى , استراتيجية عليا, تحدد أهدافها القومية في الداخل و الخارج, وتحافظ على مصالحها الحيوية, وتحمي أمنها القومي. وفي ضوء ذلك كله, يتم تحديد وتنظيم علاقاتها مع الدول المجاورة لها في المنطقة الإقليمية, وعلاقتها مع بقية دول العالم . وقد اتفق المفكرون والباحثون المتخصصون في الدراسات الصهيونية والإسرائيلية على أن استراتيجية إسرائيل العليا, تقوم في الأساس على العقيدة الصهيونية التي تعتبر الكيان الغاصب لفلسطين “إسرائيل“ ثمرة لها. وهي تتأثر بشكل قوي ومباشر بالكيفية التي نشأ بها هذا الكيان كدولة على جزء هام وأساسي من إقليم فلسطين, والوضع الجيوستراتيجي لهذا الإقليم في قلب العالم العربي , و في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة . من هنا يتبين أن الأمن القومي بمعناه الشامل, يمثل الهدف الأول في التخطيط الستراتيجي الإسرائيلي على جميع المستويات السياسية والعسكرية والجغرافية. وبالتالي فان التوسع الإقليمي وزيادة مساحة الأراضي التي تحتلها إسرائيل بصورة مباشرة في فلسطين والبلدان العربية المجاورة أو التي تسيطر عليها سيطرة نفوذ سياسي او اقتصادي في مدى الدوائر الحيوية لأمنها القومي, حسب تصورات قادتها ومفكريها الاستراتيجيين, إنما ترمي إلى زيادة عمقها الحيوي لتطبيق سياسة الهجرة والاستيطان وإلى إيجاد حقائق بشرية ومادية على أرض الواقع تمثل تحدياً بالغ الخطورة في وجه عودة الحقوق العربية السليبة. ولذلك ترفض إسرائيل ذكر الحدود في وثائقها الرسمية وفقاً لسياسة بن غوريون الذي كان يقول : “ إن الحرب سوف ترسم حدود الدولة وستكون هذه الحدود أوسع من تلك التي خصصتها الأممالمتحدة”. وأوضح موشيه ديان في أعقاب حرب عام 1967 أن “الهدف الأول للطريق الذي نسلكه هو أن نضع خريطة جديدة وننشئ حدوداً جديدة . و نهاية الصراع سوف تتحقق في التحليل الأخير الذي يتضمن الحقيقة الشاملة لوجود دولة يهودية هنا تكون من القوة والأهمية بحيث يصبح من المستحيل تدميرها وسيكون من الضروري التعايشمعها “ في السياق ذاته أوضح إيغآل آلون خصوصية مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بقوله: “ إنه محصلة الاتصالات لدولة ما مع بيئتها القريبة والبعيدة , التي تعكس قوتها واستعدادها ووسيلتها وقدرتها التنفيذية على الدفاع عن مصالحها الحيوية وتحقيق غاياتها وأهدافها القومية من أجل ذلك عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بصورة حثيثة من أجل تلمس التأييد الدولي خارج الدائرتين الأميركية والأوروبية اللتين ضمنتا لها الرعاية المستمرة والدعم المادي والسياسي والمعنوي والإسناد العسكري. ولهذا فإن الإسرائيليين يمموا وجوههم شطر إقامة علاقات متنوعة مع دول في قارات أخرى وخصوصاً في آسياوأفريقيا وأميركا اللاتينية. وقد ارتبط هذا التوجه بالعديد من الاعتبارات والمعايير أبرزها : أ- المعيار الاقتصادي : حيث ينظر الإسرائيليون إلى أن أقطار هذه القارات ولا سيما القارة الأفريقية موضوع بحثنا, هي أقطار متخلفة وقابلة لغزوها اقتصادياً واجتياح أسواقها واستثمار مواردها الطبيعية. وقد أوضح وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق آبا ايبان في كلية الدفاع الوطني عام 1964 أن مستقبل إسرائيل الاقتصادي سيعتمد, إلى حد كبير, على نشاطها الاقتصادي في الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية, وهذا بدوره يفرض عليها تطوير شبكة علاقاتها مع هذه الدول “. وبالإضافة إلى المكسب الاقتصادي دعا ايبان إلى السعي للتقارب مع الدول الأفريقية الحديثة الاستقلال لاستمالتها والحصول على تأييدها في المحافل الدولية. ب:المعيار الستراتيجي سعى المسؤولون الإسرائيليون إلى إعطاء الأمن القوميالإسرائيلي بعداً إقليمياً و دولياً والى ربطه بشبكة من العلاقات مع أكبر عدد ممكن من دول آسيا وأفريقيا, دول الجوار غير العربية, انطلاقاً من إدراك الأهمية الستراتيجية لهذه الأقطار من جراء موقعها الجغرافي, في محاصرة مقومات الأمن القومي العربي. و في هذا الخصوص يقول رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل ليفي اشكول: “ كانت إسرائيل تتوخى من سعيها إلى إنشاء علاقات مع دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية البحث عن الأمن وضمان وجودها ودعم مركزها الدولي مع ما يحققه ذلك من مزايا ستراتيجية تنعكس إيجابا على أمنها القومي “ ج:المعيار الجغرافي : يعتبر الإسرائيليون الأقطار الآسيوية والأفريقية بنوع خاص قريبة من حيث موقعها الجغرافي من الكيان الصهيوني قياساً بالمسافة بينه و بين الولاياتالمتحدة. و تجدر الإشارة إلى أن كيان العدو لم يكن يرتبط حتى النصف الثاني من الخمسينات, سوى بعلاقات ضيقة جداً مع أفريقيا مثل علاقته مع ليبيريا التي كانت ثالث دولة تعترف بإسرائيل . أما البلد الأفريقي الذي أقامت الصهيونية العالمية علاقات وطيدة معه حتى قبل إعلان الدولة العبرية فكان دولة جنوب أفريقيا أثناء حكم العنصريين البيض فيه. و قد تجسدت هذه العلاقة الوطيدة بين العنصريين في جنوب أفريقيا والصهاينة في زيارة رئس حكومة البيض دانيال ميلين للكيان الصهيوني في مطلع الخمسينات, التي أسهمت في توطيد العلاقات الشاملة بين تل أبيب وجوها نسبورغ بحيث أصبح العنصريون البيض أقوى حليف للصهاينة بعد الولاياتالمتحدة. في النصف الثاني من الخمسينات بدأ يتبلور لدى الإسرائيليين ما عرف بالاتجاه الأفريقي في السياسة الخارجية الصهيونية, والذي تزعمه موشيه شاريت وزير الخارجية في ذلك الحين, و ذلك كردة فعل على مؤتمر باندونغ الذي عقد عام 1995 والذي برز فيه دور مصر الأساسي بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر, بالإضافة إلى دول آسيوية أبرزها الهند وإندونيسيا. الأمر الذي أثار مخاوف الإسرائيليين وشجع على قيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 و الذي كان من نتائجه فتح مضائق تيران أمام الملاحة الصهيونية في البحر الأحمر . من هنا ارتبط الاهتمام بأفريقيا بمعيار اقتصادي يضاف إلى المعيار السياسي والجيوستراتيجي. ومما قاله بن غوريون في حينه: “ أن أفريقيا أصبحت بعد تأمين حرية الملاحة في مضيق ايلات تحتل الأولوية في علاقات إسرائيل الدولية لأن هذه العلاقات ستحقق نتائج غاية في الأهمية لكلا الجانبين “. أما موشيه شاريت فاعتبر أن أفريقيا “تشكل من وجهة نظرنا, ميدانا مهماً لا ينبغي أن نسمح بنشوء فراغ فيه بعد حصول أقطارها على الاستقلال لأن ملء هذا الفراغ من قبل قوى غير صديقة سيعتبر نكسة لنا ويضيف شاريت: “ إن اهتمامنا بأفريقيا نابع, أيضاً من الروابط التاريخية التي يعود بعضها الى الماضي السحيق و بعضها إلى مطلع هذا القرن, حيث عرضت أقطار أفريقية مثل كينيا على الحركة الصهيونية لتكون وطناً ينفذ فيه مشروع الانبعاث القومي “ هذا في الظاهر أما الحقيقة الكامنة وراء هذه المواقف الصهيونية فهي اعتبار الصهاينة أفريقيا بمثابة الحلقة الأسهل للاختراق والميدان الأرحب للتغلغل والاجتياح . وقد اعتبر بن غوريون أن الطريق الأكثر ضمانة للوصول إلى السلام والتعاون مع جيراننا, يكون عن طريق الحصول على أكبر عدد ممكن من الأصدقاء في آسيا وأفريقيا, الذين سيفهمون أهمية إسرائيل وقدرتها على المساهمة في تقدم الشعوب النامية حيث أنهم سينقلون ذلك المفهوم إلى جيران إسرائيل . وقال ليشيم, الذي كان مديراً للإدارة الأفريقية في وزارة الخارجية الإسرائيلية “ أن صداقة أفريقيا هي عامل قوي يفيد إسرائيل في العالم الآفروآسيوي وقد تكون ذات دور حتى يمكن إقناع العرب بالتفكير في التعايش السلمي وعلى هذا الأساس تخرج إسرائيل من عزلتها”. وقد ابدى الاسرائيليون مخاوفهم من تزايد انتشار الاسلام في افريقيا, مما يلحق اذى كبيرا بالمصالح الاسرائيلية. ويقول تسفي مزال نائب المدير العام لشؤون افريقيا في وزارة الخارجية الاسرائيلية :”ان العالم صغير ومغلق, وان ما يحدث في أي مكان يؤثر على المكان الاخر وخاصة بالنسبة لما يحدث في افريقيا التي تعتبر جارة لاسرائيل من الناحية الجغرافية, واذا ما تفشى الاسلام هناك, فان اسرائيل ستتضرر كثيرا. وعلى ضوء هذه التوجهات ماذا تريد اسرائيل اذن من افريقيا ؟ الأهداف الإسرائيلية في أفريقيا و أبعادها الستراتيجية المختلفة أ - الأهداف في إطارها التاريخي العام يعتبر هدف تحطيم طوق العزلة الاقتصادية و السياسية الذي سبق للدول العربية أن فرضته على الكيان الصهيوني منذ تأسيسه عام 1948, من بين أهم الأهداف التي ترمي إليها استراتيجية السياسة الخارجية الإسرائيلية, ومن هنا جاء تطوير إسرائيل لعلاقاتها المتنوعة مع الدول الأفريقية لكي تضطر العرب إلى الاعتراف باحتياجات وجودها وأمنها القومي , و أيضا إلى تحقيق الأهداف التالية : 1. إحراز اعتراف دولي أوسع وتأييد عالمي أشمل للكيان الصهيوني في المحافل الدولية دعماً لوجوده الذي نشأ في ظروف غير عادية وغير شرعيه تختلف عن ظروف نشوء الكيانات السياسية الأخرى . 2. ضرب الحصار العربي وإسقاط تأثيراته المحتملة من خلال شبكة من العلاقات المتعددة الأوجه والأشكال . 3. إرتقاء مكانة دولية تفوق في أهميتها الرقعة الجغرافية التي يحتلها هذا الكيان و التي هي بمثابة جزيرة وسط بحر معاد . 4. دق إسفين بين أقطار العالم العربي والأقطار الأفريقية والحيلولة دون قيام تلاحم عربي أفريقي يقوم على أساس النضال المشترك والمصير والتاريخ المشترك والمصالح التي تفرضها عوامل طبيعية مثل وقوع دول أفريقية وعربية على ضفاف النيل وجغرافية مثل الحدود المشتركة المطلة على مياه البحر الأحمر . 5. ضمان أمن إسرائيل: حيث نجد أن تطوير شبكة من العلاقات الخارجية سيؤدي حتماً إلى ضمان هذا الأمن وهذا ما أكده بن غوريون بقوله:” إن الأمن يجب أن يكون النقطة المحورية التي تتحرك حولها السياسة الإسرائيلية, وإن ضمان أمن إسرائيل يقف في طليعة الأهداف في سياستها الخارجية “([1]) 6. تحقيق مزايا استراتيجية : لقد دار في ذهن المسؤولين الصهاينة أن إقامة علاقات وطيدة مع الأقطار الأفريقية المتاخمة للدول العربية الأفريقية وخصوصاً مصر والسودان وليبيا والجزائر والمغرب, يمكن أن تخولهم استخدام واستغلال هذه الدول من أجل الالتفاف على الدول العربية في الحسابات الستراتيجية. وفي هذا المجال يوضح الجنرال حاييم لاسكوف, رئيس الأركان العامة الأسبق للجيش الإسرائيلي أن “نجاح إسرائيل في تطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية في غرب أفريقيا وخاصة تلك التي تقع جنوب الصحراء والمتاخمة للدول العربية سيحقق لإسرائيل مكاسب ستساعدها على تلافي نقاط الضعف الستراتيجي المتمثلة في إحاطتها بطوق عربي والوصول إلى الظهر العربي المكشوف من ميدان لا يتوقعه العرب“. وقد أكد بن غوريون على ما أسماه المستلزمات والمصالح الأمنية الإسرائيلية في العلاقة مع دول أفريقية محددة مثل أثيوبيا التي اعتبر أنه يوجد معها منذ أواخر الخمسينات حلف غير مكتوب عرف بحلف نصف المحيط وكان يضم أيضا كلا من إيران (الشاه) وتركيا. وكشف العديد من المسؤولين الإسرائيليين عن أن أثيوبيا وضعت تحت تصرف إسرائيل قواعد بحرية بدعوى حماية الملاحة في البحر الأحمر و كذلك فعلت جيبوتي وإرتريا وأوغندا وتشاد وكينيا. وكان واضحاً أن ما يتوخاه الإسرائيليون من وراء هذه التحالفات هو إقامة أسوار عداءللعالم العربيتحيط به من كل جانب. ولقد أدى نجاح الكيان الصهيونيفي التغلغل الاقتصادي والسياسي في أفريقيا إلى نجاح آخر بالتبعية هو النجاح العسكري, حيث تمكن الصهاينة من اختراق جيوش العديد من الدول الأفريقية عن طريق بعثات المستشارين والخبراء والمرتزقة للأشراف على تدريب هذه الجيوش وعن طريق إمدادها بالأسلحة و العتاد بأسعار تشجيعية , وتطبيق التجارب والخبرات الصهيونية في مجال تشكيل التنظيمات شبه العسكرية, الأمر الذي أدى بالتالي إلى كسب مودة وتأييد العديد من القادة والضباط داخل هذه الجيوش وشجع لديهم نزعة المغامرة مما أدى في النهاية إلى حصول اغتيالات وانقلابات لصالح الصهاينة أنفسهم وهذا ما حصل في زائير وتوغو وأوغندا وجمهوريةأفريقيا الوسطى وسواها.