في العهد البائد إبان تحالف الفساد والاستبداد عندما كان الشعب في خدمة الشرطة؛ عرف المصريون جميعا إتاوة غير مسبوقة لدى غيرهم من الدول تجبى منهم عنوة تحت اسم "طابع شرطة" هذه الدمغة الغريبة والإجبارية التي يطالب بها كل مراجع لدائرة حكومية لإنجاز أي عمل روتيني كاستخراج جواز سفر أو تجديد رخصة قيادة؛ وكم تأجل إنجاز مهام في دائرة حكومية لأن طوابع الشرطة الموجودة لدى الموظف المختص قد نفدت؛ ثم يوجهك الناصحون إذا كنت راغبًا في شراء وقتك وإنجاز مهمتك باللجوء للفراشين والسعاة للحصول على طابع الشرطة بأضعاف ثمنه؛ هامسين في أذنك بأن هذا الموظف المختص يسرب نصف الكمية المسلمة إليه لهؤلاء السعاة ليقتسموا الفارق سويًا. في البداية كنت أستغرب من هذا المسمى (طابع شرطة)؛ وفي دلالة هذه الإتاوة التي تتنوع فئاتها؛ كنت أسأل نفسي أليست الشرطة جهازًا قوميًا يمثل السيادة الوطنية؟ أليس لها اعتمادات مناسبة في ميزانية الدولة التي تمولها الضرائب والموارد الاقتصادية للدولة؟؛ هل يليق أن تتقاضى دولة معاصرة أجرة من الشعب نظير قيامها بحماية مجتمعه وحراسة ممتلكاته؟؛ ولكنني كنت بدافع الوطنية أردع هذه التساؤلات مستعدًا لبذل الغالي والرخيص لتمويل جهاز الشرطة الذي هو صنو جيش بلادي فكلاهما مكلف بحمايتها. حتى اكتشفت ذات يوم أن الريع الهائل لهذه الإتاوة لا يخصص لتمويل جهاز الشرطة بل لتمويل أندية ضباط الشرطة، وهذه الأندية يا سادتي هي منتجعات راقية مهيأة بكل وسائل الترفيه والرفاهية ومخصصة لضباط الشرطة وأسرهم، أذهلتني المعلومة وفهمت منها أن السيد ضابط الشرطة الذي يقضي أسبوعه في قهرنا وسب أمهاتنا وصفع أقفيتنا وركل مؤخراتنا والبصق على وجوهنا؛ يحتاج في نهاية الأسبوع لراحة من هذا العناء في جو رومنسي يهيئ له تناول وجبة من اللازنيا والسكالوب والجمبري بالمايونيز، بينما تستمتع زوجته بالبيسين والبيوتي سنتر ويلهو أولاده بالكريزي ووتر، ولكن من يدفع له ثمن ذلك كله؛ هم هؤلاء الذين تفضل سعادته بسب أمهاتهم وصفع أقفيتهم وركل مؤخراتهم، وهذه منتهى العدالة المنطقية، أفليس هؤلاء هم من تسببوا في إرهاق سعادته على مدار الأسبوع؟. هناك ما هو أخطر من ذلك فهذه الدولة التي تعيش منذ ثلاثة عقود تحت قانون طوارئ بغيض يستبيح كل شيء في حياة ومقدرات كل مواطن مصري، ويستتبع هذا القانون القبض على الناس بالشبهات وبدون سند قانوني واحتجازهم لفترات طويلة غير مبررة والأقسى من ذلك منهج التعذيب الجسدي الذي أصبح سياسة تدمغ تعامل الشرطة مع المواطن، مما حول زنازين السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة إلى سلخانات بشرية تمارس فيها جميع انتهاكات حقوق الإنسان؛ بشكل منظم أدرج مصر على رأس الدول التي تنتهك هذه الحقوق بانتظام. وقد ترتب على ذلك أن عشرات الألوف ممن تعرضوا للتعذيب والإيذاء رفعوا قضايا على الدولة أثبت القضاء في معظمها حقهم في الحصول على تعويض مناسب بعد أن قدمت تقارير الطب الشرعي (الرسمية) لمنصات القضاء أدلة دامغة فاضحة لا يمكن دحضها، فلم يكن بوسع هذا القضاء إلا الحكم بتعويض هؤلاء الضحايا بمبالغ وصلت في مجموعها إلى عشرات الملايين، وكانت هذه الأحكام تقتصر بالطبع على الحكم بتعويض الضحية تعويضًا ماليًا دون إدانة الجاني أو حتى تحديده. فمن الذي كان يدفع للضحايا هذا القدر الهائل من التعويضات؟، كانت تُدفع من خزانة الدولة، أي من الضرائب التي تجبى مني ومنك لبناء مدارس لأبنائنا ومستشفيات لزوجاتنا ومشاريع إسكان لشبابنا، كل تلك المطالب من حقوق الشعب كانت تؤجل لأن مخصصاتها تذهب لتعويض ضحايا أبرياء تم سحلهم على يد زبانية الشرطة؛ دون أن يتحمل هؤلاء الزبانية أية مسئولية قانونية أو مادية أو معنوية؛ لذا فقد استمروا بلا هدنة ولا تردد ولا هوادة في ممارسة أقسى أنواع التعذيب بغير رادع؛ لأن من يدفع ثمن جرائمهم البشعة هم أنا وأنت. لقد حول النظام الفاسد المستبد في عهد مبارك الشعب المصري إلى مصدر تمويل ثابت لأعضاء جهاز الشرطة من الديدان إلى الثعابين؛ ومن منا ليست لديه عشرات القصص عن ابتزاز الأمناء (الخونة) والمخبرين للمواطنين في كل المواطن؛ ولم يقتصر ذلك على قاطني مصر بمختلف فئاتهم؛ بل أن المغتربين المصريين وما أكثرهم يتم تذكيرهم بمجرد وصولهم بأنهم عادوا إلى أرض الوطن، فيتم ملاحقتهم في كل خطوة بعبارات مثل: "حمد الله على السلامة يا باشا"؛ و"كل سنة وانت طيب يا حاج"؛ ومن أبرز صور الابتزاز التي يتعرض لها هؤلاء الأتاوات التي تفرض على من يحضر إلى البلاد بسيارته، فيجبر فور وصوله على شراء طفاية حريق لسيارته "صناعة مصرية" بسعر يتراوح بين 150 إلى 200 جنيه لا يعفيه من ذلك حمله لأي طفاية مهما كانت جودتها وصلاحيتها؛ لأن هذه الطفاية التي يجبر على شرائها من تصنيع مصنع مملوك لابن الرئيس، ثم يُجبر هذا المغترب على توقيع طلب مطبوع مقدم إلى مدير أمن الميناء يرجوه فيه حراسة سيارته مقابل 70 جنيهًا! مع أن هذا المغترب ملاصق لسيارته وتجلس أسرته بداخلها لحين إنهاء الإجراءات، ثم يتم تكبيده مبلغ 80 جنيهًا مقابل الكشف على سيارته بجهاز كشف المفرقعات!؛ ويتبع ذلك سلسلة سخيفة عقيمة من الإجراءات المذلة المهينة لا هدف منها سوى ابتزاز هذا المغترب الذي يعلمون أنه عاد لتوه محملا بمصاريف الأجازة؛ فلا يخرج من الميناء إلا وقد دفع ما يتراوح بين 1.000 إلى 1.500 جنيه (بين رسمي وودي ومبهم)؛ بهدف تهيئته نفسيًا لمواصلة مسيرة دفع الإتاوات الإجبارية للشرطيين طوال رحلته وحتى عودته. لأن كل ما سبق ذكره كان تجارب شخصية عايشتها كما عايشها أكثر مني الملايين فقد آن الأوان بعد ثورة شباب مصر الذين أحسنوا باختيار تاريخ 25 يناير موعدًا لها ليبدلوا الذكرى السوداء في أذهاننا لهذا التاريخ "عيد الشرطة" البغيض ويجعلوه على النقيض "عيد العدالة والكرامة"، أقول لقد آن الأوان ليس فقط لتصحيح هذه الأوضاع الجائرة؛ بل ولمحاسبة كل من فرض هذه الألوان من الذل والقهر والقمع على شعب مصر، نعم المحاسبة وليس الانتقام فالعدل أساس الملك؛ وتسامحنا عن المحاسبة يعني سماحنا بنقل ملكيتنا إلى زبانية جدد؛ ربما يكونون أكثر جوعا وشرهًا لدمائنا. أطالب البرلمان الجديد الذي لن يكون مزورًا بإذن الله وأطالب الحكومة وكل القوى السياسية بمصر بالسعي للإلغاء الفوري للإتاوة التي تجبى من الشعب باسم طابع الشرطة، ثم يتم فورًا حصر كل المنشآت الترفيهية التي أنشأت من حصيلة هذه الجباية وسحبها من هيئة الشرطة وتسليمها لجهة استثمارية متخصصة تديرها بصورة تجارية ويخصص ريعها لبرامج تنموية اجتماعية تخدم أبناء الشوارع أو أطفال العشوائيات؛ كما أطالب بحصر كل ما قامت الدولة بدفعه من تعويضات لضحايًا القتل والتعذيب التي مارسها منسوبو الداخلية، ثم العودة بها على هؤلاء المجرمين واستردادها من ثرواتهم الشخصية وثروات زوجاتهم وأبنائهم، على أن تخصص هذه الأموال لإنشاء صندوق يدعم المنظمات الحقوقية التي تتولي التقاضي عن ضحايا الشرطة الذين لا يملكون نفقات التقاضي؛ وقبل هذا وذاك لا بد من محاكمة كل من ارتكبوا جرائم التعذيب وانتهاك الكرامة الإنسانية؛ وهي جرائم لا تسقط بالتقادم في كل القوانين والمواثيق الدولية، أطالب بحصر ومراجعة كل الإجراءات البيروقراطية البغيضة والمتعفنة في دوائرنا الحكومية التي ظاهرها التنظيم الروتيني وباطنها الابتزاز المنظم للشعب، وهذه المطالب هي مجرد بنود على قائمة طويلة أناشد كل من يطلع على مقالتي بإكمالها.