قبل مرور ثمان وأربعين ساعة على زيارة الملك عبد الله الخاطفة ، وصل وزير الخارجية الأمريكية جون كيري إلى القاهرة في زيارة خاطفة أيضا ، وكما انشغل الإعلام المصري بالحديث التافه عن احتفاليات لقاء المشير والملك وأن الملك أتى ليؤكد دعمه للسيسي وتهنئته ومعه قوارير السمن والعسل والدولارات ، انشغل أيضا حاليا بتوصيف زيارة كيري باعتبارها اعتذارا للسيسي عن تأخرهم في التهنئة وتحفظهم على الإطاحة بمحمد مرسي ، وأن الزيارة تعني مدى أهمية مصر وأن أمريكا لا يمكنها الاستغناء عن دور مصر ومكانتها ، من جانبه لم يكن كيري أقل نفاقا أو دروشة ، ولكنها دروشة مقصودة عندما حاول الإيحاء بأن زيارته متعلقة بالتحول السياسي في مصر والقلق من هذه "اللحظة الحرجة" التي تمر بها مصر ، وهو كاذب بكل تأكيد ، فالتحول سابق وقديم نسبيا وكانت هناك لحظات أكثر خطورة فيه ولم يأت ، وإنما الذي أتى به على وجه السرعة هو "الخاذوق" الذي شربته الإدارة الأمريكية في العراق على حين غرة فجعل أوباما يدور حول نفسه ، ويعقد الاجتماع تلو الاجتماع مع قادته العسكريين والديبلوماسيين وقادة الكونجرس ويتردد في اضطراب واسع ، هل يتدخل أم لا يتدخل ، يبعث قوات أم يبعث طائرات بدون طيار ، وما هي القوى الإقليمية التي يمكنه الاستعانة بها ، وأستطيع أن أؤكد بكل يقين أن زيارة كيري الحالية والعاجلة أيضا للسيسي تأتي في سياق الموقف من الحدث العراقي . السياسة الأمريكية لا تتطابق مع السياسة السعودية في العراق ، بل السياسة السعودية تختلف كثيرا مع السياسة الأمريكية في المنطقة فيما يتعلق تحديدا بملف التهديدات الإيرانية والهلال الشيعي الذي تريده طهران لمحاصرة الرياض ، العاصمة الأهم وعمود الخيمة للخليج العربي ، وقد تجلى الخلاف في أوضح صوره عندما تحركت المدرعات السعودية بإصرار وعناد إلى العاصمة البحرينية المنامة قبل عدة سنوات لمنع سيطرة الأحزاب والقوى الشيعية الموالية لإيران على السلطة هناك ، وكان الأمر قاب قوسين أو أدنى من ذلك ، وكان الأمر محرجا جدا للأمريكيين لأن لهم وجودا عسكريا قويا هناك ، لم تأبه به المملكة ، وفي الملف العراقي لا تخفي واشنطن انحيازها للمالكي والقوى الشيعية ، فهو صنيعتها وهو الذي سلمته الحكم ومكنته هو والميليشيات الشيعية المتعددة من الهيمنة على العراق وممارسة الإقصاء الدموي والاجتماعي للسنة طوال أكثر من عشر سنوات حتى تفجر المخزون في الأحداث الأخيرة ، وقد اعترف الأمريكيون مؤخرا بأن المالكي مارس الحكم على خلفية طائفية وهو ما أدى للتطورات الأخيرة ، ولكن الحوار الأساس حول العراق ما زال بين الأمريكان والإيرانيين ، علنا ، مع تعمد تهميش الدور السعودي والخليجي بشكل عام ، لأن حسابات الأمريكيين مختلفة ، الأمريكيون ينظرون إلى المسألة من جانبها الأمني كتهديدات لقوى متطرفة أو إرهابية مثل تنظيم داعش ، والسعوديون ينظرون إليها من منظور استراتيجي وأن خطر التمدد الإيراني وحصار المملكة بالهلال الشيعي أخطر كثيرا على الأمن القومي السعودي من تهديد تنظيمات مثل داعش كما أن التصنيف السعودي لما يجري في العراق أنه ثورة شعبية لقوة وعشائر سنية تستغلها داعش ، وهنا يمكن بسهولة إدراك أن الرؤية المصرية تتطابق مع الرؤية الأمريكية وتتباعد عن الرؤية السعودية ، لأن السلطات المصرية تتحدث حول محور واحد مهيمن : مكافحة الإرهاب ، وتعليق الخارجية المصرية كان حصريا عن "الإرهاب في العراق"، والسلطات الجديدة في مصر تعلي من هذا الجانب لتدشين شرعية دولية لها بوصفها تصطف مع واشنطن والعالم الغربي في مواجهة الإرهاب الذي يمثل إزعاجا شديدا لهم ، وهذا الدور يستدعي أن يدعم الغرب السيسي ونظامه ويتخففوا من الحديث عن ملفات حقوق الإنسان والحريات والتعددية والشراكة السياسية ويضعوا ملف الإخوان خلف ظهورهم ، باعتبار أن التهديد الإرهابي أولوية قصوى للدول الغربية . زيارة كيري وفق هذا المنظور ستزيد الضغط على السيسي وتزيد من إرباكه ، لأن المسار الأمريكي في العراق غير المسار السعودي ، والسعودية لن تتسامح مع أي قوة إقليمية تدعم المسارات الإيرانية أو تتقاطع معها أو تشارك في عملية قمع الثورة الشعبية السنية في العراق تحت أي ذريعة ، وإذا كان التهديد الإرهابي أولوية للأمن القومي الأمريكي ، فالتهديد الإيراني بتجلياته العراقية والسورية أولوية قصوى للأمن القومي السعودي ، ومرة أخرى سيكون على السيسي أن يختار ، وعليه أن يضحي بطرف لصالح طرف السيسي بعد أقل من شهر واحد من توليه السلطة يواجه اختبارا أقسى كثيرا جدا من التحديات الداخلية التي يعانيها .