لاشك أن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" وقوى عراقية سنية يغلب عليها الطابع العشائري مؤخرا على أجزاء واسعة من شمالي وغربي العراق، كان أمراً مفاجئا للكثير من المراقبين السياسيين، نظرا للسرعة التي استطاع من خلالها ذلك التحالف التقدم في مناطق ينتشر بها الجيش العراقي الذي من المفترض أن يكون مجهزاً من حيث العدد والعتاد لصد مثل ذلك الهجوم. لكن ماحدث في الحقيقة ليس مفاجئاً على الاطلاق، لأن بذوره كانت تنمو وعوامله تتفاعل منذ فترة ليست بالقصيرة. فبحسب قيادات سنية عراقية، فإن "السياسة الطائفية واللاديمقراطية التي اتبعها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والدعم الايراني وربما الغربي لها، مقابل إهمال القوى السنية وإبعادها عن ساحة الفعل السياسي والعسكري، بل ومطاردة زعماء وقادة السنة وفبركة التهم ضدهم، الى جانب زج الكثيرين منهم في السجون بتهم ملفقة ومختلفة، ومعاملة العراقيين السنة بتمييز طائفي في الحياة العامة"، كل ذلك أدى إلى نوع من التعاطف للشعبي السني مع أية حركة مقاومة تنهي السياسية "المالكية الايرانية" في العراق، وخاصة في المناطق السنية التي كادت تصبح مناطق لشعب من الدرجة الثانية أوالثالثة مقارنة مع مناطق الشيعة التي تتركز في الجنوب. وبسبب خلو الساحة السنية - بعكس الساحة الشيعية - من أي تنظيم عسكري قوي وفاعل قادر على مقاومة الميليشيات الشيعية المختلفة المنتشرة في أجزاء العراق، فقد قدم الكثير من العراقيين السنة دعما -ولو معنويا- لتنظيم داعش، بل وانضم الى صفوف التنظيم الكثير من العراقيين السنة ممن أصابهم الإحباط مما يجري في العراق من إضعاف لهم سياسيا وعسكريا. كما شكلت العشائر تنظيمات مسلحة، أملا في إحداث تغيير ما لسيطرة المالكي وأعوانه على العراق وتصرفهم فيه بدكتاتورية لم تعد مقبولة، خاصة مع السعي للتجديد للمالكي لفترة ثالثة. يضاف إلى ذلك ما تقوم به الميليشيات الشيعية من تدخل فاضح في سوريا إلى جانب نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري، والذي اصبح واضحا من خلاله أن إيران تتبع سياسة واضحة وهي ماضية في توسيع نفوذها وسيطرتها على العراقوسوريا ولبنان من خلال تدخلها العسكري والسياسي في هذه الدول مباشرة وبواسطة اعوانها. وهذا التدخل من قبل إيران استفاد من الصمت الأمريكي والغربي، بل وربما بشيء من الموافقة عليه من خلال عدم ممانعته، والدخول في مفاوضات مباشرة معها هي الأولى منذ ثورة الخميني، ومايشاع عن التقارب الايراني الامريكي والغربي، والذي يعود في أكثره إلى العداء الذي تكنه الولاياتالمتحدة للقاعدة، ورغبتها في تقوية الحركة الشيعية في العالم العربي لإحداث توازن قوة مع السنة، وتخلق لهم قوة مضادة تجعلهم يدخلون معها في صراع طويل، يحوّل اهتمام القاعدة من العداء للغرب الى انشغال بمواجهة الحركة الشيعية التي تضع ايران معظم مواردها خلفها لتحقق من خلالها ماتحلم به من عودة للامبراطورية الفارسية. كذلك فإن الوضع الاقتصادي المتردي جعل الكثير من العراقيين السنة يصابون باليأس من أي أمل باصلاح اقتصادي او تغيير ل"السياسات المالكية" التي يرون أن فسادها نخر الموارد الهائلة التي يجلبها النفط العراقي، والتي تذهب في معظمها الى جيوب المالكي واعوانه للمحافظة على سيطرته على البلاد. وقد كان لانسحاب القوات العراقية وهروبها من مواجهة تنظيم "الدولة الاسلامية" أثرا كبيرا في كشف حقيقة جيش المالكي الذي جعله "جيشا تابعا لنظامه، وخطط له ليكون جيشا شيعيا يدين بالولاء له، وليس جيشا عراقيا يحمي البلاد ويوحد ابناءها، بحسب مراقبين وقيادات سنية. إذ أن المالكي، وفقا للمراقبين والقيادات السنية، جعل الجيش العراقي "جيشا طائفيا" تماما كجيش النظام السوري، ليحمي الحاكم ويأتمر بأمره، وليس جيشا وطنيا يضم جميع ابناء الوطن ويوحد ولاءهم وانتماءهم ويحمي الوطن من التهديدات الخارجية، ووضع الكثيرين من اعوانه في صفوف قادته وضباطه ذوي الرتب العالية، وقد تبين أن هذا الجيش ليس إلا فرقة تأتمر بأمر حاكمها التابع لإيران بعد الانباء التي وردت عن قيام قاسم سليماني قائد فليق القدسالإيراني بقيادة المعارك بعد سيطرة داعش على الموصل وغيرها. إن تأثير ماحدث في العراق يتعدى حدوده، لأنه يعتبر جزءا مما يجري في المنطقة ويؤثر عليها. فتنظيم "داعش" في سوريا استفاد كثيراً من الاسلحة التي غنمها من الجيش العراقي فكثف هجماته على خصومه في دير الزور (شرق) وريف حلب(شمال) وسيطر على مناطق كان قد طرد منها خلال الأشهر القليلة الماضية. وقال ناشطون سوريون، الاسبوع الماضي، إن تنظيم داعش، قام بإدخال عربات مصفحة وأسلحة غنمها من الجيش العراقي عبر الحدود بين البلدين (العراقوسوريا) وذلك لدعم مقاتليه في سوريا. كما أن معنويات أعضاء التنظيم ارتفعت بتصدّر الأخير المشهد العراقي، الأمر الذي ينبئ بانضمام عناصر جدد كثر ممن أصبحوا يرون فيه قوة قادرة على مقاومة المخططات الإيرانية ودعمها للنظام السوري، وكذلك الوقوف في وجه الميليشيات الشيعية التي تحارب في سوريا الى جانب نظام بشار الاسد. وهذه النظرة ل"داعش" تأتي بغياب قوة حقيقية للجيش الحر والتنظيمات المسلحة السورية المعارضة، التي لم تستطع خلال أكثر من 3 سنوات التوحد تحت راية واحدة ولم تستطع اثبات قدرتها على الحاق هزيمة واضحة بنظام بشار ومن يدعمه. أما من جهته فسوف يحاول بشار الأسد الاستفادة مما حدث لإقناع العالم الغربي بأنه يحارب الارهاب في سوريا، وأنه اذا سقط نظامه فإن نظاما يسيطر عليه الاسلاميون ومنهم "داعش" وغيرها سوف يسيطر على سوريا. وهذا يستلزم أن يتوقف الغرب عن دعم "الثوار" السوريين، وأن يعترف بشرعية الانتخابات الهزلية التي نظمها نظام الأسد وفبرك نتائجها في سوريا مطلع يونيو/حزيران الجاري. وكان رئيس البرلمان السوري، محمد جهاد اللحام، أعلن 4 يونيو/حزيران الجاري فوز الأسد بنسبة 88.7% من إجمالي الأصوات المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي رفضتها أطراف عربية وغربية إضافة إلى المعارضة السورية التي وصفتها ب"المهزلة" و"انتخابات الدم". إلا أن الواقع سيكون مختلفاً عما يسعى له النظام السوري، لأن الولاياتالمتحدة تدرك تماماً أن نظام بشار هو الذي أعطى القوة لتنظيم داعش للسيطرة على ما يسيطر عليه في سوريا، وأن التنظيم بادله بعدم مهاجمة قواته، والتركيز على احتلال المناطق التي حررها الجيش الحر من النظام. ولهذا فقد تكون إحدى تبعات ماحدث في العراق أن ترفع الولاياتالمتحدة إلى حد ما الحظر المفروض على تسليح المعارضة المسلحة السورية "المعتدلة" وتزيد من دعمها لها. وقد جاء رد الفعل الأمريكي للأحداث في العراق سريعا بخلاف الحالة السورية، حيث ألقى أوباما كلمة مخصصة للأحداث العراقية، بعد أيام من اندلاعها، وارسل حاملة طائرات الى الخليج لدعم أي خيار عسكري محتمل، وكان واضحا في رغبته بدعم الحكومة العراقية ضد تنظيم داعش، لكنه ربط ذلك بعملية سياسية تصلح الوضع القائم وتعطي السنة دورا سياسيا في قيادة البلاد لعلمه بأن غير ذلك لن يحل المشكلة التي خلقتها الأحداث الجديدة. ومع أنه ألمح إلى أن أي تدخل عسكري أمريكي لن يكون قويا، لكن الواقع سيضطره في نهاية الامر للتدخل بشكل أقوى مما يريد لأن القوى العسكرية العراقية الحالية غير قادرة على استعادة المناطق التي خرجت من سيطرة الحكومة، وكذلك فإن إيران متورطة في سوريا ولن تستطيع التدخل بقوة في العراق لأنها ستقع في مستنقع جديد قد لايكون لديها القدرة على الخروج منه بسهولة. والسبب في ردة الفعل الامريكية السريعة هي التأثير الكبير الذي سيحدثه خروج النفظ العراقي من السوق العالمية، والخسائر الاقتصادية التي ستلحق بالولاياتالمتحدة بسبب عدم استقرار السوق النفطية التي تمتلك العراق جزءاً من أكبر احتياطياتها. من جهتها فإن ايران لن تدع الفرصة تمر دون الاستفادة منها، إذ سارع الرئيس الايراني الى إعلان استعداد ايران للتعاون مع امريكا للوقوف في وجه " الارهاب ". لكن الولاياتالمتحدة - وبالرغم من تصريح وزير خارجيتها جون كيري بامكانية تعاون الولاياتالمتحدة مع ايران في الشأن العراقي - ستكون حذرة في التعامل مع هذه الدعوة لأنها ستعطي ايران اوراقا لاتريد واشنطنلإيران ان تملكها سواء في الملف النووي لديها او الملف السوري. إذ أن تورط ايران في سوريا يضعفها اقتصاديا في الداخل، ويضعفها سياسيا في الخارج ويزيد من كراهية العالم العربي والاسلامي لها، باعتبارها تسير عكس التيار الذي يقف ضد بشار الاسد ويعتبره رئيسا غير شرعي. أما دول الخليج فقد تابعت ما يجري بقلق شديد لأن ما يحدث في العراق يؤثر بشكل مباشر عليها خاصة بوجود الأقليات الشيعية التي حاولت مرارا التأثير على الوضع السياسي فيها وخاصة في البحرين والسعودية، وبشكل اقل في الكويت. وإذا امتد ما يحدث في سوريا الى العراق فإنه حتما لن يقف هناك بل سيمتد الى دول الخليج وإن يكن توقيته في علم الايرانيين وما يخططون له لتجيير المنطقة لصالح امبراطوريتهم التي يسعون لتحقيقها بشتى الوسائل. وفي الوقت نفسه فإن دول الخليج ليست مرتاحة ايضا للسيطرة التي تحققها داعش لأن هذا يضع اية نتيجة لما يحدث في العراق في غير صالح دول الخليج، فلا انتصار المالكي على داعش ولا العكس يصب في صالح تلك الدول لأن انتصار الأول يضعها في مواجهة تمدد النفوذ الايراني ولأن الآخر يضعها في مواجهة التطرف الذي كلفها الكثير في الماضي، واستطاعت بصعوبة الخلاص منه وإن يكن بشكل غير كامل. اما في تركيا فإن الحكومة التركية ليست مرتاحة لما حدث نظرا لما يشكله تنظيم داعش من تهديد لحدودها الجنوبية، وحالة شبه الاستقرار التي كانت تخطط للاستفادة منها في شراكة مع الأكراد في شمال العراق. وقد أربكها ايضا اختطاف عدد من مواطنيها اضافة الى بعض اعضاء القنصلية التركية في الموصل. وقد يكون لذلك تأثير على سياستها الخاصة بمراقبة تسليح الثوار السوريين، لتسمح بمرور أسلحة نوعية، لإعطاءهم القدرة على الوقوف في وجه تنظيم "داعش". أما الأكراد فقد سارعوا للاستفادة من الوضع من خلال سيطرتهم على بعض المناطق التي انسحب منها الجيش العراقي، وخاصة في كركوك وهي المدينة النفطية الهامة التي يحاول الاكراد منذ زمن بعيد ضمها الى اقليمهم (شمال العراق). وسيكون رد فعل الاكراد قويا ضد داعش خاصة وأن هذا التنظيم لايعترف بالاقليم الكردي، وكانت له مواجهات كثيرة مع الاكراد في سورية اثبت من خلالها قدرته على الحاق الخسائر بهم بالرغم من عدم تحقيق الكثير من الانتصارات، لكن ذلك سيتغير مع سيطرة التنظيم على اسلحة فعالة وعلى مصادر نفطية تعطيه القدرة المالية على تمويل نفسه بشكل افضل من السابق، إضافة إلى الأموال التي غنمها من البنوك بعد سيطرته على الموصل. إن ما حدث في العراق جزء لا يتجزأ مما يجري في المنطقة، وتتحمل الولاياتالمتحدةوإيران وبعض دول المنطقة المسؤولية عنه، فإيران تتدخل مباشرة عسكريا من خلال الحرس الثوري وميليشياتها، وماليا من خلال تقديم الدعم المادي لنظام بشار الأسد، وسياسيا من خلال الضغط على حلفائها في العراق لتثبيت المالكي ودعم سياساته الكارثية للعراق وشعبه من جهة، وللمنطقة من جهة أخرى. أما الولاياتالمتحدة فإن سلبيتها حيال الثورة السورية، بل وقوفها ضد تسليح الثوار السوريين ادى بشكل أو بآخر الى تقوية تنظيمات متطرفة في ايديولوجياتها وفي تصرفاتها على الأرض. كما ادى خروجها من ساحة الفعل السياسة والعسكرية الى دخول اطراف اخرى ماكانت لتدخل الساحة لولا ذلك الفراغ الذي خلفته سلبية الولاياتالمتحدة وصمتها وقبولها بالرعونة الإيرانية والروسية. أما الدول الاخرى في المنطقة والتي أربكها الموقف الامريكي وعدم قدرته على تحليل الواقع بشكل صحيح لمعرفة مصالحها الذاتية دون الأخذ بالاعتبار الأوامر والنصائح الخارجية، فقد ساهمت في تأجيج الوضع في العراق وسورية وسقوطه في هوة ستزداد اتساعا وسيصبح من الصعب في المستقبل ردمها، وبالتالي ستصعب إعادة الاستقرار والأمن والسلم إلى المنطقة.