فى مشهد يحمل الكثير من التراجيديا الإنسانية قضت محكمة الجنايات العاشرة بالعاصمة التركية أنقرة بالسجن المؤبد فى حق الجنرال القوى كنعان إيفرين رئيس الجمهورية السابعة التركية كما قضت بذات الحكم على مساعده قائد القوات الجوية الأسبق الفريق أول على تحسين شاهين كايا فهم المشهد والتعمق فيه يحتاج إلى العودة للوراء لأكثر من ثلاثين عاماً ففى ظهيرة يوم الثانى عشر من سبتمبر عام 1980 وفى تمام الساعة الواحدة فوجىء الشعب التركى ببيان يلقيه رئيس هيئة الأركان التركية الجنرال كنعان إيفرين يعلن فيه الإطاحة بحكم الرئيس " المدنى " سليمان ديميريل وتشكيل مجلس للحكم من القيادات العسكرية ومنهم الجنرال شاهين كايا المشار إليه آنفا وبرر إيفرين فى بيانه الأول انقلابه بحالة الاضطرابات السياسية التى سادت البلاد حينها ، والزعم بأن المبادىء الكمالية التى أسس عليها كمال أتاتورك الجمهورية التركية الحديثة تتعرض للخطر . واختتم بيانه بفقرة سوف تقابلك فى كل انقلاب حول العالم قال فيها : " ” أيها المواطنون الاعزاء ، لكل هذه الاسباب .. اضطرت القوات المسلحة لانتزاع السلطة بهدف حماية وحدة البلد والامة وحقوق الشعب وحرياته وضمان أمن الناس وحياتهم وممتلكاتهم وسعادتهم ورخائهم ولضمان تطبيق القانون والنظام – وبتعبير آخر استعادة سيادة الدولة بشكل نزيه ” وتضمن البيان الثاني للانقلاب حل حكومة سليمان ديميريل والمجلس الوطني التركي الكبير ، ورفع الحصانة البرلمانية عن اعضائه أما البيان الثالث فقد أعلن فيه إيفرين القبض على قادة العمل السياسى من مختلف الاتجاهات وشتى الأيديولوجيات وعلى رأسهم الرئيس سليمان ديميريل نفسه إضافة إلى بولنت أجاويد " يسارى " ونجم الدين أربكان " إسلامى " وألب أرسلان توركتش وغيرهم . ثم أعلن قائد الانقلاب إسناد مهام المحافظات التركية إلى قادة الجيش التركى وذلك لإحكام السيطرة على البلاد بقبضة أمنية محكمة . وكما هو متوقع فقد عمت المظاهرات والاحتجاجات أرجاء تركيا فقابلها إيفرين بإجراءت قمعية شديدة كان حصيلتها اعتقال مئات الآلاف من الأشخاص، وحُوكم نحو مائتين وخمسين ألفاً آخرين، وأُعدم خمسون معتقلاً فعلياً من جملة أحكام بالإعدام طالت المئات. كما مات عشرات آخرون تحت التعذيب في السجون، وفر عشرات الآلاف من الأتراك الى الخارج. وكما هو معتاد مع كل انقلاب خرجت المظاهرات المؤيدة للانقلاب وردد المحتفلون الأناشيد والأهازيج وطالبوا قائد الانقلاب بإكمال جميله والاستيلاء رسميا على منصب الرئاسة وهو ماحدث لاحقا عقب عامين من تعقب المعارضين وتصفيتهم إذ صدر دستور 1983 والذى منح العسكريين حصانة ومكانة متميزة فى الشأن السياسى التركى إذ أصبحوا سلطة فوق كل السلطات والمنوط بها الحفاظ على هوية الدولة التركية وقد تمكنوا بموجب ذلك الدستور من تنفيذ الاتقلاب الناعم على حكومة نجم الدين أربكان عام 1997م . كما تم انتخاب قائد الانقلاب رئيساً رسمياً للجمهورية التركية عام 83 عقب تشكيل البرلمان الجديد . وعندما تم السماح باستئناف الحياة الحزبية تشكل حزب الديمقراطية القومية بزعامة الفريق أول المتقاعد تورجوت سونالب في يوم 15 مايو عام 1983 ليصبح أول حزب سياسي في هذه الفترة. و في 20 مايو تقدم الفريق أول المتقاعد "أيضا " علي فتحي أسَنر بطلب لتأسيس حزب تركيا الكبيرة ، أى لم يكتف العسكر بالاستيلاء على رأس السلطة بل حاولوا إكمال سيطرتهم على الحياة السياسية برمتها عقب تأسيس الأحزاب الكبرى . قصة طويلة دامية تمثل حلقة من حلقات البؤس الإنسانى عندما تغتال كرامة الإنسان وتصادر حريته ويتم الحجر على اختياراته . لذا كان المشهد أمام قاعة المحاكمة مؤثراً فقد حرص أهالى الضحايا على رفع صور ذويهم وأبنائهم الذين دفعوا حياتهم ثمنا للحرية وكأنهم يقولون لهم : انظروا هاهم القتلة الذين صادروا حقكم فى الحياة يحاكمون بعد أكثر من ثلاثين عاما وقد بلغوا من العمر أرذله ( 92 عاما ) . هاهم الذين كانوا ملء السمع والبصر وامتلكوا القوة والسلطة فما أغنت عنهم اليوم شيئاً أمام القصاص العادل . لقد استمعت إلى سيدة تقول فى حزن وأسى من أمام قاعة المحكمة لإحدى المحطات الفضائية لقد قتل أبى وزوجى فى السجن وأريد استرجاع حقوقهما . رجل آخر قال : ما يهمنا هو محاكمة إيفرين وتحسين شاهين كايا ، وإظهار كيف وقع المجتمع التركى ضحية للجيش . أحكام المؤبد بحق جنرالات انقلاب مضى عليه أكثر من ثلاين عاما قد تكون رمزية نظرا للحالة الصحية المتدهورة للغاية للرجلين نظرا لتقدم سنهما ولكنها تشكل رسالة للجميع أن الحقوق لا تسقط بالتقادم وأن العدل الذى قد يغيب فى وقت ما لابد وأن يستوفى يوما ما .