زماااان كانت متعة أساسية لسكان القاهرة أن يسيروا في شوارع «وسط البلد» هذا المربع الجميل –الراقي الذي يبدأ من ميدان التحرير وحتى ميدان رمسيس، ومن ميدان العتبة وسور الأزبكية وحتى شارع رمسيس. شوارع عريقة ومبانٍ ذات طرازات معمارية رائعة، وواجهات محلات لامعة، ومطاعم بديعة.. وسينمات محترمة ومسارح فخمة. .. قصر النيل.. عدلي.. سليمان باشا.. فؤاد.. الألفي.. الشواربي.. عماد الدين، أسماء لشوارع كانت الأجمل والأنظف في مصر كلها، وكان قطعها سيراً على الأقدام بعد انكسار حدة الشمس، متعة لا يشعر بها إلا من أدمن على ممارستها، وقضاء المساء متنقلاً بين ميدان سليمان باشا، ومكتبة الحاج محمد مدبولي –رحمه الله- بجلبابه البلدي والصديري الذي تمسك بهما حتى وفاته وهو أشهر ناشر في مصر، ومروراً بجروبي والأمريكين، ثم استراحة قصيرة وفنجان قهوة في «البن البرازيلي» أو شاي بالنعناع على مقهى «ريش»، .. وربما كوب سحلب في قهوة أم كلثوم، ودقائق من الانسجام مع صوت «الست»، وإذا وصلت لبداية شارع فؤاد جهة ميدان العتبة، فلابد من التسكع على «فرشات» الكتب القديمة على سور الأزبكية العريق. قبل أيام قليلة استقليت «تاكسي» طلبت من السائق التجول بي في شوارع وسط البلد لأستعيد ذكريات الشباب، وابتسم الرجل ابتسامة دهشة لم تمرّ عليّ مرور الكرام، وما إن تركنا مصر الجديدة، وأنهينا نفق الأزهر وعبرنا ميدان الأوبرا لندخل شارع سليمان باشا من شارع عدلي حتى كان المنظر «المرعب».. ضاق الشارع حتى سمح بمرور سيارة واحدة «بالعافية» وعلى الجانبين اصطفت «فرشات» الباعة «الثابتين» -كانوا جائلين فيما مضى- واحتلت الرصيف بالكامل، ونصف الشارع أمامه، في صفوف غير مسبوقة، البائعون تتداخل أصواتهم النشاز وهم يدعون الزبائن للشراء، بينما قطع الملابس تتطاير في الهواء ضمن منظومة ترويج، لا توجد سوى في مصر. المشهد كان صادماً.. قبيحاً.. مشوِّهاً لكل ما هو جميل في وسط البلد، ونظرات أصحاب المحلات وعمّالهم وهم «مسجونون» داخل محالهم، كانت تشي عن حجم الظلم الواقع عليهم بعد أن أغلق الباعة «الثابتين» -محميين بالبلطجية- أبواب الرزق أمامهم. تذكرت هذا المشهد وأنا أسمع متحدثاً باسم الباعة الجائلين في إحدى الفضائيات يدافع عن «ضرورة» وجودهم في «وسط البلد»!!.. ثم رأيت مشاهد «محاولات» إزالة الإشغالات، وتذكرت أيضاً ذلك المشهد «القميء» الذي كان يتكرر كثيراً للباعة الجائلين وهم يفرون بما استطاعوا حمله من بضاعتهم، بينما رجال شرطة المرافق يطاردونهم، ويلقون بما تصل إليه أيديهم داخل سيارة نقل كبيرة مفتوحة، .. وتساءلت: منذ الستينيات ونحن نتحدث عن مشاكل الباعة الجائلين، نتعاطف مع السيدة «الغلبانة» الجالسة أمام «مشنَّة» الخضار، ونهاجم صاحب الفرشة الذي احتل أغلب الرصيف، ونشجب السلوك «التدميري» لرجال المرافق.. دون أن نجد حلاً جذرياً للمشكلة، بينما العالم المتحضر كل يعرف ما يسمّى ب«سوق البراغيت» أو الFLEA MARKET.. وهو موجود في كل حيّ ومنطقة أياماً محددة ودون مشاكل، سواء في ساحات مفتوحة محددة أو محلات صغيرة متجاورة، أو مساحات ضخمة مغطاة.. فهل نحن مصرّون على اختراع «العجلة».. ولا بلاش «العجلة» عشان بقت تعمل حساسية؟! وحفظ الله مصر وشعبها من كل سوء.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter@hossamfathy66