التدرج في خطوات النهوض بالدولة والمجتمع ضرورة إنسانية وليس فقط وعيا سياسيا ، وحتى في الشأن الديني والحلال والحرام ، كان التدريج سنة النبي الكريم في هذا الشأن على النحو المستفيض في السيرة النبوية ، مثل تحريم الخمر وغيرها ، وعندما نكون أمام تحولات ضخمة وخطيرة مثل التي تنتظرها مصر ، الدولة والمجتمع ، فإن هذه السنة ينبغي أن تكون حاضرة لدى الجميع ، لأن القفز فوقها أو تجاهل الحاجة الإنسانية الفطرية لها يعني الرعونة والنزق ، والقفز بسفينة الوطن نحو المجهول وتحويل مسألة النهضة والتحرر والبناء إلى محض مغامرة غير مضمونة العواقب . والعين التي عاشت في ظلام مفروض عليها عشرات السنين لا تستطيع أن تضعها في عين الشمس مرة واحدة وإلا تعرضت لخطر فقدان البصر كله ، وكذلك الأمة التي حرمت من نور الحرية ونعمة الديمقراطية ستين عاما على وجه التقريب ، لا يمكنك أن تدفع بها مرة واحدة أمام صندوق الانتخاب وتقول أنه وحده الذي يقرر ، لأن الديمقراطية ليست محض صندوق انتخاب ، رغم أن هذا الصندوق هو أداة الديمقراطية الأقوى وميزانها الأساس ، ولكن الديمقراطية ثقافة في البداية وتوافق اجتماعي على قواسم مشتركة ، ثم بعد ترسخ هذا الوعي والثقافة يمكنك أن تمضي إلى أقصى درجاتها بدون أي خشية أو قلق من انتكاسة أو انحراف بها أو عودة إلى الديكتاتورية ، وقبل أن تصل إلى هذا التوافق الكامل والراسخ تحتاج إلى مواءمات وصبر وتدرج . ومن هنا كان ضروريا أن تبذل القوى الوطنية المصرية جهدا أكبر في الحوار والتشاور من أجل الوصول إلى توافق عام على خريطة المستقبل ، كما يكون من المهم جدا النظر إلى أولويات المرحلة بروح التجرد والتضحية ، وليس بروح انتهاز المواقف والبحث عن المغانم ، وعندما نوجه خطابنا بإلحاح أكثر وربما بتحامل أكثر على التيار الإسلامي ، ونحن بعض منه ، فإن ذلك لأنه "الشقيق الأكبر" بين القوى الوطنية المصرية في المشروع الديمقراطي المأمول ، وهو التيار الذي يملك القاعدة العريضة في المجتمع والقبول الإنساني والأخلاقي والسياسي الأوسع ، ومن المفهوم وربما البديهي أنه لو أجريت الانتخابات اليوم أو غدا فسوف يفوز باكتساح ، وبالتالي فإن مسؤوليته في إبعاد الخوف عن الآخرين وإشاعة أجواء من الطمأنينة بين شركاء الثورة والمستقبل والتأكيد على كل ما يضمن ترسيخ كل المعاني الجميلة التي تشتاق إليها الأمة وطالما حلمت بها من الحرية والكرامة وسيادة القانون والعدالة والتعددية والفصل بين السلطات ، تكون مسؤولية أكبر من غيره ، والرسائل الإيجابية المطلوبة منه أكثر من غيره ، والتضحيات المطلوبة منه أيضا تكون أكبر من غيره ، ورباطة الجأش والهدوء والتعقل والبعد عن التشنج والعصبية الذي يطلب منه أكثر من غيره بطبيعة الحال. واللحظة التاريخية الحالية تمثل مجال اختبار لعدد من الشعارات الإسلامية النبيلة التي طالما تكرر نشرها خلال السنوات الماضية في خطاب الإسلاميين ، ولعل في مقدمتها مبدأ "نحن لسنا طلاب سلطة وإنما طلاب إصلاح" ، ولو تم تفعيل هذا الكلام الآن ، وفي تلك المرحلة الانتقالية ، لانحلت عقد كثيرة في الخريطة السياسية ، فالإصلاح ليس وقفا على زيد أو عبيد من أبناء التيار الإسلامي ، وإنما هناك رموز وطنية محترمة وجادة ومؤمنة بالديمقراطية حقا يمكن أن نقدمهم بأنفسنا وندعمهم وندفع بهم للصفوف الأولى في تلك المرحلة ، غير قلقين من أي انعكاس سلبي ، لأن المجتمع الآن عفي بما يكفي لتقويم كائن من كان ، وهذا المجتمع بكل تأكيد يعرف الجميع هويته وأشواقه واختياره ، فالعابثون الذين يتحدثون عن الخوف من سوء الاختيار هم جاهلون بهذا الشعب وجوهره ومعدنه ، واستحضروا معركة الاستفتاء الدستوري الأخير رغم حملات غسيل المخ المكثفة في الإعلام تعطيكم الجواب اليقين . لم أكن أحب أن يفهم أصدقاء ومحبي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أن دعوتنا له ، ولغيره من الإسلاميين ، بالبعد عن الترشح لمنصب الرئاسة هو انتقاص من شأنه أو قيمته ، ولا من حقه كمواطن ، ولكن المقصد أن هذه اللحظة ليست لحظته ، وهو ليس ابن هذه المرحلة سياسيا ، وأذكر أن الدكتور عبد المنعم نفسه قبل شهر واحد من ثورة يناير كان ينادي علنا بضرورة ابتعاد الإسلاميين عن السياسة لفترة تقترب من عشرين عاما ، ينشغلون فيها بالتربية وتصحيح المفاهيم وبناء الإنسان ، ثم فجأة دخل الرجل ليس فقط في السياسة وليس إلى البرلمان وإنما طمح في رئاسة الجمهورية ، فهل تجاوزنا إذ ندعوه الآن إلى التريث والتأمل والتضحية السياسية ليس عشرين سنة كما كان يدعو ، ولكن فقط أربع سنوات مرحلية ، .. وفي النهاية أنا واثق في حكمة أبو الفتوح ووعيه ، وأنه سيتخذ القرار الشجاع قريبا . [email protected]