على الرغم من الوتيرة المتشنجة التى تظهر أحيانا فى مسيرة الندوات والمؤتمرات التى تقام بتركيا ، إلاّ أن الظاهرة الجديدة بالمجتمع التركى - بدأت مع الثورة الإعلامية عام 1992- والمتمثلة فى مناقشة وفتح حوارات علنية وعلى الهواء مباشرة حول موضوعات وقضايا شائكة تسير على قدم وساق.وهى ظاهرة تلفت نظر أى مراقب للشأن التركى مما يعطى الفرصة للقول بأن تركيا إذا إستمرت على هذا الطريق دون تردد وإتسع صدر الحكومات والمؤسسات الرسمية والقطاعات المختلفة من الشعب التركى،ستتمكن من تحقيق الإستقرار الأمنى الممهد للإستقرار المجتمعى.أقول هذا بمناسبة عقد مؤتمر بجامعة إستانبول الحكومية بين 15-17 مارس الحالى لبحث ومناقشة الإدعاء الأرمينى بوقوع مذبحة تركية للأرمن إبان الحرب العالمية الأولى(14-1919).والملفت للنظر فى هذا المؤتمر الذى يعد الأول من نوعه أن رئيس الحكومة ونوابه ووزير الثقافة أرسلوا رسائل شفوية للمؤتمر، وكذا الملفت للأنظار أن حرارة المناقشات داخل القاعة المغلقة لم تقابل بحرارة مماثلة خارج سور الجامعة من الطلاب المتظاهرين كما كان الحال فى مثل هذه الموضوعات . صحيح .. لا يمكن القول الآن أن تركيا تخلصت تماما من مظاهر العنف والشدة بين أصحاب التيارات الفكرية المختلفة، ولكن هناك نضوجا فكريا ومجتمعيا تشهده تركيا منذ بدء الثورة الإعلامية عام 1992 بالسماح للقطاع الخاص بالمشاركة فى العمل الإعلامى بإنشاء محطات تلفزيون وإذاعات على موجات إف إم . الحق يقال أن تحول البرامج السياسية التلفزيونية والإذاعية لساحات للحوار وتبادل الآراء فى كل شىء وبشكل مباشر على الهواء دون رقيب أو قطع ، هو الطريق الذى مهد ولازال يمهد لتعزيز مفهوم الحوار والنقاش باللسان والعقل والقلم بدلا من الحوار بالسلاح.إن نتيجة الثورة الإعلامية الهوائية والتوسع فى الإتصالات الحديثة ومناقشة قضايا المجتمع بحرية وعلنية هى التى سمحت للعقول بالمرونة والتغيّر لدرجة لم تكن متوقعة لدى أى شخص أو باحث . وها هو المجتمع يجنى رويدا رويدا ثمار هذا التوجه الجديد القائم على الحوار والنقاش . من كان يصدق بإمكانية عقد مؤتمر بإحدى الجامعات التركية وبمدينة إستانبول لمناقشة المشكلة الكردية علنا للمرة الأولى فى تاريخ الصراع التركى- الكردى الذى بدأ عام 1925 بعد إنهيار الدولة العثمانية وصعود القومية التركية لسدة الحكم بدلا من القومية الإسلامية، ومن كان يصدق أن إدعاء المذبحة الأرمنية سيناقش بجامعة إستانبول.بالطبع لا يمكن نسيان دور حكومة حزب العدالة والتنمية ذات التوجه المحافظ والمعتدل فى هذا التطور الإيجابى بالسماح لمناقشات علنية للمشكلة الكردية أو للإدعاء الأرمينى بالمذبحة.لقد أصابتني الدهشة وأنا أسمع الدكتور عمر قورقماظ يقول أمام ندوة العلاقات التركية – العربية بكلية الإقتصاد والسياسة بجامعة القاهرة يوم 18/1/2006: إنى طلبت من منظمى الندوة أن تكون العربية هى اللغة المستخدمة فى الكلمات والحوارات لأؤكد أنه لم يعد هناك مجالا للحديث عن التركية الطورانية فى تركيا" .كما سررت بسماعى للكاتب الصحفى منيب نويان فى برنامج التلفزيونى بمحطة هلال تى فى مساء يوم 16/3/2006 يقول " ولم لا .. ألسنا جميعا إخوة تجمعنا فكرة الأمة الإسلامية وكل الجغرافيا الإسلامية هى ملك للمسلمين ". إلى هذه الدرجة تساهم وسائل الإعلام (الخاصة) الواعية فى التوجيه الصحيح وإعادة ترتيب الأفكار وتهذيبها بالتأكيد على الحوار والنقاش كوسيلة ناجعة لوضع الحلول السلمية المؤدية لضبط وإستقرار المجتمعات .خاصة بعد أن ثبت للقاصى والدانى أن إستخدام العنف والشدة من قبل المعالجات الفردية أو الأمنية والعسكرية لم تؤد إلاّ للخراب والدمار والتخلف المجتمعى.يقول الدكتور/ ماهر قايناق المدير السابق بالمخابرات التركية لإذاعة مرمرة إف إم يوم 17مارس 2006 " لقد وقعت إنقلابات عسكرية بتركيا بدعوى الحد من العنف والشدة ولكن ثبت للجميع أن المعالجات العسكرية أدت لخسائر كبيرة أهمها منع تكوين أرضية سياسية ومؤسسات مدنية قوية تغنى عن المعالجات العنيفة.فحزب الوطن الأم الذى كان فى سدة الحكم بالأمس القريب لا وجود له اليوم وكل الأحزاب الموجودة يمكن أن تتعرض لنفس الموقف". وبمناسبة الحديث هنا عن قيمة وأهمية الحوار والنقاش فى تغير فكر المجتمع التركى يكون من المناسب تذكر ما قام به رسول الإنسانية من تغيير مجتمع قريش وجزيرة العرب بالحوار والنقاش والكلمة الطيبة بعد أن كانت القبائل تغير على بعضها البعض بالقتل والترويع وسفك الدماء ومن ثم يجب أن نلتزم بالحوار لأنه منهج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) ألم يقل سبحانه وتعالى " لقد كان لكم فى رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا " فطوبى لم سار على نهجه وطوبى لتركيا السائرة فى طريق الحوار والنقاش. كاتب وصحفي مصري مقيم بتركيا