ستظل نكبة 5 يونيو عارنا التاريخى المتوالد وهزيمتنا اليومية.. هى بحق هزيمة كل يوم.. توالدت منها كل هزائمنا الحضارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.. ما نشهده اليوم فى العالم العربى كله إنما هو آثار متتابعة من آثارها.. وما الحديث عنها فى ذكراها السابعة والأربعين إلا وقوف على خيبات اليوم وكيف هى بنات هذه النكبة الكبرى التى لحقت بالأمة كلها.. وهى النكبة التى لم يمر عليها ثلاثة أيام إلا ولحقتها نكبة أخرى ستتوالد هى أيضًا وإن لم تكن بنفس خصوبة النكبة الأولى.. وهى نكبة 9 يونيو يوم خرجت الحشود فى الشوارع والطرقات، لا لتطيح بالنظام الذى فقد شرعيته تمامًا بعجزه عن حماية الوطن وسلامة أراضيه.. ولكن لتستبقيه وتمنحه شرعية البقاء والاستمرار.. يحدثنا د.شريف يونس فى كتاب (الزحف المقدس أحداث 9/10 يونيو 1967)، حينما خرج المصريون إلى الشوارع مطالبون جمال عبد الناصر بالتراجع عن قرار التنحي، "كانت هذه الحشود تعكس شعورًا ووعيًا متراكمين عبر 15 سنة من حكم جماعة الضباط الأحرار ومن ألحق بهم من المدنيين والعسكريين الآخرين.. شكلت بالفعل أذهان الناس وعواطفهم وتوجهاتهم باستخدام تعبئة أيديولوجية متواصلة، وكانت نتيجتها هى تحرك الناس على هذا النحو الفريد فى تاريخ (الهزائم الكبرى) للأوطان. ويعبر مفهوم الزحف المقدس عن فكرة وردت فى كتاب (فلسفة الثورة)، ترى الشعب المرغوب فيه شعبًا مفتتًا إلى عناصره الأولية يسير أفراده ومؤسساته وراء الضباط كرجل واحد، كما هو الحال تمامًا فى الاستعراضات العسكرية". ويضيف أن "شعبية عبد الناصر هى فى أساسها صنيعة الدعاية التى قامت باللعب على الانتصار السياسى فى معركة تأميم القناة 1956م والتضخيم من المكاسب التى حققتها فى الأساس الطبقات الوسطى (لا الفقيرة) من أجل تصوير النظام، باعتباره نظام الفقراء والكادحين، الناس كانوا كما لو أنهم كالقطيع الذى يمكن سوقه بلا وعي". سنرى هذه الحشود أيضًا مرة أخرى تستخدم للعبث بفكرة (الشرعية) كما عبثت بها من قبل.. سيكون لنفس الشخص الذى ابتعث فكرة (شرعية الحشود) دور ممدود.. وقد حكى لنا فى أكاذيبه عن دوره الرئيسى فى فكرة التنحى لتكون إشارة البدء التى كان ينتظرها (بهاليل) الاتحاد الاشتراكى ليملأوا الطرقات والشوارع بالحشود العمياء.. فيأخذها المهزوم ليشرع بها بقاءه واستمراره.. هى نفس الحشود التى خرجت بعد ذلك مبصرة تقول: (لا صدقى ولا الغول عبد الناصر المسئول)، لكنه هذه المرة أطلق عليها الطائرات الهليكوبتر تضربها بالرصاص واخترع لها جيشًا جديدًا أطلق عليه (الأمن المركزى).. يحكى لنا الفريق صدقى قائد القوات الجوية فى شهادته المسجلة صوتيًا (لجنة كتابة التاريخ 1976م)، أن الرئيس عبد الناصر قال له فى اجتماع كان يحضره الفريق أنور القاضى رئيس هيئة العمليات واللواء على عبد الخبير مدير الأركان بالقيادة العليا واللواء صادق مدير المخابرات الحربية وشمس بدران وزير الحربية.. فى القيادة العامة للقوات المسلحة، مكتب عبد الحكيم عامر: "قال عبد الناصر: على فكرة يا صدقي.. أنا اتخذت قرار بأنك ما تضربش الضربة الأولى! ولأول مرة يعترض صدقى ويقول: قرار إيه اللى أخذته سيادتك ده..؟ فقال الرئيس بحسم: هو كده.. إحنا مش ها نضرب الضربة الأولى! وحاول صدقى أن يوضح معنى القرار ودارت مناقشة بينه وبين الرئيس، وقال: كونى أتلقى الضربة.. أنها تشلنى عن الحركة أو تعطلني.. وبعدها التفت الرئيس عبدالناصر نحو المشير ثم قال: طيب يا صدقي.. تحب تضرب أنت الضربة الأولى وبعد كده تحارب أمريكا وإسرائيل؟ وسأله صدقي: هل سيادتك متأكد أن إسرائيل لو وجهت الضربة الأولى حاتكون وحدها برغم المعروف لنا من المخابرات؟ وكان جواب الرئيس: أيوه..! فقال صدقي: المسألة مش قادر أعقلها ولكن إذا كان كده يبقى أمرى لله! وقال الرئيس عبدالناصر بانفعال: عمومًا الموضوع كله سياسى وسيتم حله سياسيًا! ثم انصرف".. الحديث كما هو واضح يشير إلى أن عبد الناصر كان يقدر أن تكون المسألة بحجم ما حدث فى 1956م (سياسية).. ويكون بعدها فى موقف قوى أمام عامر بما يمنحه القدرة على عزله وإخراجه تمامًا من القوات المسلحة كونه مهزومًا.. ذلك أن عامرًا ومن خلال القوات المسلحة قد استطاع أن يكون قوة موازية لقوة ناصر الشعبية التى كانت فى أوجها.. وكان عامر كثيرًا ما يشير فى لقاءاته بناصر إلى انه مصدر قوته وحمايته وكان كثيرًا ما يشير إلى أن المخابرات الحربية هى التى اكتشفت تنظيم الإخوان سنة 1965م، وبالغ كثيرًا فى قصته حتى يزداد فى منه وتفضله على ناصر.. عبد الناصر احتاج عامين كى يتخلص من المعارضة المدنية لحكمة، لكنه احتاج خمس سنوات هو وصديقه كى يسيطر على الجيش سيطرة تامة.. وكان يشعر بتهديد مبطن من عامر بسهولة الانقلاب عليه وعزله فى أى لحظة.. سنعرف بعدها أن عامر طرده من مقر القيادة العامة ظهر 5 يونيو حين دخل عليه يسأله عما حدث.. وبالفعل غادرعبد الناصر.. عامر تصور أنه حضر ليشمت فيه!! كل الدلائل كانت تشير إلى أن عبد الناصر كان يعرف بموعد الحرب على ما ذكر لنا عبد المنعم النجار سفير مصر فى باريس وقتها.. وكان يعرف أن الجيش القادم منهكًا من اليمن.. مكسورًا من سوريا بعد الانفصال.. مصدعًا من شللية عبد الحكيم عامر ورجاله.. كان يعرف أن هذا الجيش لا يستطيع مواجهة إسرائيل.. ومع ذلك طرد القوات الدولية وأغلق المضايق، وهى القرارات التى كانت تعنى مباشرة إعلان حرب على إسرائيل.. لكنه لم يكن يتوقع أن تسفر الحرب عن هذه النكبة الكبرى على الجبهات الثلاث (مصر وسوريا والأردن).. توقعها حربًا محدودة، كما كانت فى 56 والتى خرج بعدها منتصرًا سياسيًا.. وعليه فسيكون الأمر واحدًا ويتخلص فى هذه المرة من عامر ومن عصابته فى الجيش.. لقد اتخذ الرجل من الوطن وأمنه القومى ومن الشعب وسلامته مادة للعبة وضيعة يلبس فيها عاره لغيره. ما حدث فى 56 كان يستدعى فى أبسط التصورات الاستراتيجية عزل وزيرالحربية (عامر).. لكن عبد الناصر كان يحتفظ فى ذاكرته بانقلابات سوريا المتكررة.. ولم تكن العلاقة مع صديق عمره (عامر) قد اهتزت بعد.. وكانت حركة 52 لم يكن مر عليها أربع سنوات.. ولم يكن الجيش قد تم تأمينه تمامًا.. وأن أمن نظامه إن كان مهددًا، فهو مهدد من الجيش.. وهو الجيش الذى كان قد بدأ يستقبل أبناء الطبقة الوسطى من العام 1936م، وهى الطبقة التى قامت تنظيماتها السياسية والأيديولوجية بدور كبير فى التربية السياسية للضباط، وما حدث طوال الأربع سنوات السابقة لم يكن يشير إلى أن الأمور ستسير سيرًا حسنًا فيما يتصل بالمشروع الوطنى لمصر المستقلة بعد احتلال طويل.. الأحد عشر عامًا التالية أكدت ذلك.. وكانت نكبة 67 وجهها القبيح. وحق لها أن توصف بأنها (هزيمة كل يوم ).. عاش عبد الناصر بعدها ذليلاً 3 سنوات.. حتى جاء السادات وسلم أوراق ال99% من أوراق القضية لأمريكا.. وكانت حرب 73 بكل دهاليزها المريبة والتى حرمت فيها العسكرية المصرية من استرداد كرامتها كما ينبغى لها وبما يمحو عار (الانسحاب الكيفى) من صحراء سيناء الذى حدث من جيش عامر وناصر.. والمتابعون لحال القوات المسلحة المصرية يرصدون أربع مراحل هامة مرت بها هذه المؤسسة الكبرى.. مرحلة حيدر باشا قبل حركة 1952م، ثم مرحلة عامر، ثم مرحلة الفريق عبد المنعم رياض، ثم مرحلة ما بعد كامب ديفيد (أبو غزالة وطنطاوى).. لن يحتفظ التاريخ فى ذاكرته بغير مرحلة (رياض) التى كانت بحق أقوى وأروع المراحل وأشرفها وطنيًا وعسكريًا.. دهاليز 73 أنتجت لنا كتلة الظلام، (الكيسنجرية) نسبة إلى هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى اليهودى، التى أنتجت لنا كامب ديفيد ومعاهدة السلام.. ثم أنتجت لنا حسنى مبارك وثلاثينه السوداء.. ثم أنتجت لنا ما نحياه الآن.. وما كانت حشود 30/6 التى قضت على تجربة (الديمقراطية المدنية) وهى بعد (عود أخضر) قابلة للإصلاح والتوجيه إلا استعادة خبيثة لحشود 9-10 يونيو 67.. وحق لها أن تكون نكبة أخرى تلحق بنكبة الهزيمة العسكرية غير المسبوقة فى تاريخ الحروب.. وإن أنسى فلن أنسى مشهد الجنود المصريين فى فيلم تسجيلى ل"بى بى سى"، فى انسحابهم الكيفى بملابسهم الممزقة رافعين خرقًا بيضاء.. الطريف أن الأستاذ هيكل كان المعلق الرئيسى فى هذا الفيلم.. دور الأستاذ هيكل فى النكبتين كبير.. والحقيقة أن دوره التاريخى فى حياتنا السياسية يتسع ويمتد لما فوق النكبات من كوارث ومصائب.. سيحدثنا علماء الاجتماع السياسى كثيرًا عن الآثار المروعة لنكبة يونيو على البنيان الأخلاقى للمجتمع المصرى وتصدع علاقات المصريين ببعضهم من جانب وعلاقتهم بالسلطة والإدارة والوطن كله من جانب آخر.. وسيمتد ذلك طويلاً متزودًا بزاد من الفساد والتحلل الكبيرين طوال حكم السادات ومبارك. كانت نكبة يوينو زلزالاً جاءت بعده زلازل ارتدادية من النوع نفسه وبنفس حدته، و.. ساهمت تلك الزلازل المتلاحقة فى تخليد هذا الجرح العميق داخل الوطن، كل ما نعيشه من خرابات وتبعيات وتحولات هو من تداعيات نكبة 5 يونيو، إنها القارعة الكسرة بحق.. قالها صلاح عبد الصبور فى (ليلى والمجنون): يا أهل مدينتنا يا أهل مدينتنا.. انفجروا أو موتوا.. رعب أكبر من هذا سوف يجيء..