حين تقرأ عن مصر في كتب التاريخ ، لا يمكن أن يفارقك الشعور لحظةً بأنك تقرأ عن تاريخ دولة عظيمة غنية تفيض لبناً وعسلاً.. كيف لا تكون كذلك وقد وصفها الله عز وجل في القرآن الكريم على لسان نبيه يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55]. فهل يمكن أن توصف بذلك إلا لكثرة خيراتها، وكثرة غلاّتها؟! لقد كانت مصر في أغلب عصورها أملاً للحالمين بالعيش الكريم من مواطني البلدان الأخرى؛ كأي دولة غنية نشاهدها الآن من التي يذهب إليها الناس من كل حدب وصوب بُغية العيش الكريم والثراء السريع.. ولعل هذا الخير العظيم الذي عُرفت به مصر ومكانتها العظيمة جعل الصحابي الجليل، فاتح مصر، عمرو بن العاص يقول: "ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة" وقال بعده سعيد بن أبي هلال: "مصر أم البلاد، وغوث العباد" وذكر بعض المؤرخين أن مصر كانت مصوَّرة في كتب الأوائل، وسائر المدن مادة أيديها إليها تستطعمها" ! وجاء في كتاب فضائل مصر المحروسة: (وأجمع أهل المعرفة: أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبون الرزق بها، وأهلها لا يطلبون الرزق في غيرها، ولا يسافرون إلى بلد سواها، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا.) [فضائل مصر المحروسة لمحمد بن يوسف الكندي المتوفى في القرن الرابع الهجري]. كل هذا يبرّر لنا سبب ارتباط المصريين الوثيق بأرضهم على مدار التاريخ، وأن ثقافة الهجرة إلى خارج مصر لم تكن معروفة كثيراً في الثقافة المصرية.. إذ كيف يهاجر المرء من السّعة إلى الضيق ومن الرخاء إلى المجهول؟! ولكن ماذا حدث للمصريين في العقود الستّ الماضية؟! لا أظن أن تاريخ مصر على مدار آلاف السنين، شهد أعداداً من المهاجرين خارجها مثل تلك الأعداد التي خرجت إبّان حكم العسكر في الخمسينيات وحتى الآن؛ هروباً من الفقر والقمع ومصادرة الحرّيات؛ حتى استقرّ في أذهان الشباب المصريين أن قمة النجاح والتوفيق أن تهاجر لتعمل في الخليج أو تحصل على جنسية دولة أخرى، وأن أكبر خدمة يمكن أن يقدمها مصري مهاجر لأشقائه في الداخل، أن يبحث لهم عن فرصة للهجرة معه ! وقد أصاب مربط الفرس الرئيس الشرعي المعزول حين قال: "إن مصر دولة غنية بمواردها الطبيعية والبشرية، وأن المطلوب فقط هو محاربة الفساد، ليستفيد الجميع من خير مصر، بدلاً من تركزه في أيدي قلّة".. لكن للأسف بعد أكثر من 60 عاماً من الحكم العسكري، لم يتفطّن مرشّح العسكر لذلك، وأخذ يردّد في كل لقاء ومناسبة أن مصر دولة فقيرة، بل وحمّل القدماء المصريين إفراطهم في استخدام الذهب وعدم تركهم ما يكفي للأجيال القادمة ! ويدلّل على قناعاته دائماً بعبارات سلبية مثل: - أنا عاوز أديك لكن مش قادر أديك.. هتاكلوا مصر يعني؟! - فيها إيه لو الطالب يمشي للجامعة، ولو تقسموا الرغيف أربع تربع؟! - يا سلام لو كل مغترب يتبرع بمرتب شهر لمصر.. - يعني لو رجال الأعمال يتبرعوا بتريليون جنيه لإقامة مشاريع.. - ما فيش.. ما فيش.. ما فيش.." !
إبراهيم لبيب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.