بدا في الثمانينيات، من القرن الماضي، أن إخراج العلويين من السلطة هو ذو أساس طائفي، شيئا ما، ماساهم باختلاط معايير العمل النضالي وقتذاك. فاستغل الأسد الأب الأمر وعدم توافق الأوضاع السياسية العامة والإقليمية، وفاز بالضربة القاضية، لا بل أوقع خصومه بنوع من "تأنيب الضمير" فتارة يُعْرَض تائبٌ وتارةٌ يعرض متراجِعٌ وتارة يعرض منقلبٌ على نفسه. ونجح الأسد الأب في تناقضات لايقدر عليها سواه. ففي الوقت الذي أثبت لخصومه بأنه قومي أو وطني، كانت الطائفة العلوية، بأغلبها الغالب، في قبضة هذا الرجل. لقد برع الأسد الأب بتخويف العلويين من الآخر، وتصوير أهل السنة على أنهم قادمون لنزع السلطة من الزعيم العلوي – القومي حافظ الأسد. وبقية اليساريين القلة من العلويين إمّا أقفلت فمها بشمع أحمر وإما خرجت من السجن السياسي بندبة لن تنساها: لقد خرج بعض اليساريين العلويين مكسوري الجمجمة من أول الأنف الى الجزء الخلفي من الرأس وإدريس خلّوف واحدٌ من الذين يحملون الآن جمجمة مشطورة ظاهرة للعيان. فشل محاولة إخراج العلويين من السلطة في الثمانينيات من القرن الماضي كان أثره مدمرا على الطائفة العلوية. لقد تجندت بالكامل، تقريبا، لحماية الرمز المخلّص: الأسد الأب. وتحولت لهجة العلويين في سورية الى لهجة تعذيب ولهجة الاعتقال السياسي. هكذا! أصبحت اللهجة العلوية مؤشرا قطعيا الى السلطة والى النظام ثم الى مؤسسة الأمن. لم يدر بخلد الأسد الأب، كما أنه لا يعرف، أو أنه لم يكن يهتم، بأن طائفته التي جندها للدفاع عنه أصبحت تشبه جماعة الباكستانيين عند الجيش الفرنسي في حروبه العالمية، أو تشبه شركس سوريا أيام الاحتلال العثماني حيث كان الجلادون المعذبون من الشراكسة. لدى الأسد الأب تولى العلويون هذه المهمة القذرة. وشيء لايمكن فهمه على الإطلاق كيف تقبل المجتمع السوري هذه الآلية المستبدة. والعجيب أن الأسد الأب رغم صراخه القومي الدائم كان يوزع ضباطه العلويين على فروع الأمن، وكان أفراد التحقيق العسكري لايهابون التحقيق مع المعتقلين باللهجة العلوية، فصارت الشتيمة علوية والتعذيب علويا والإهانة علوية. عقدة الذنب التي طاردت خصوم الأسد الأب منعتهم من الإشارة العلنية إلى عَلْوَنَة الدولة السورية. والحروب التي حدثت مابين نهاية السبعينات الى أول التسعينيات من القرن الماضي أمّنت الوضع بالكامل لإقفال أو تكميم الأفواه. كان الإحساس الطائفي يتعاظم سريا دون لجوء أطرافه الى التعبير العلني عن إحساسهم. وكان الطائفيون العلويون يزدادون ثقة بالنفس وإيماناً بعقيدتهم وأن الأسد الأب نجح بالمهمة المقدسة التي قد تقرّب اليهم مهديهم المنتظر. كان كل شيخ علوي، حتى لو لم يكن له نفوذ في المؤسسة العسكرية أو الحكومة، مرتاحا لعَلْوَنة الدولة. فكان الشيخ العلوي يتنقل مابين المحافظات السورية ناقلا تعاليمه الى مريديه غير المعلنين من العلويين هنا أو هناك. وتعاظمت ظاهرة التعليم الديني عند الطائفة بشكل ملحوظ في أوساط العسكريين. فالضابط الذي أنهى نهاره تعذيبا في هذا أو ذاك أو تهريبا لهذه السلعة أو تلك، كان من المريح له أن يتلقى "تطمينات" من سيده الديني (الشيخ عند العلويين لقبه السيّد) بأنه على صراط مستقيم ما: بعض الطقوس المادية كالزكاة الجزيلة للسيد وإقامة بعض الصلوات الدينية السرية كانت تكفي كيلا يحس الضابط العلوي بأي عقدة ذنب إزاء "آثامه". لقد حوّل حافظ الأسد انتصاره على خصومه إلى قوة عقائدية لتمكين مشائخ الطائفة العلوية من تثبيت ولاء العسكريين له. ووصل الأمر ببعض المشائخ الى التدخل المباشر بتعيين الضباط أو تنقلاتهم، ويعرف عن بعض هؤلاء المشائخ نفوذ ضخم يصل الى حد نقل ضابط معين من الجيش العادي "أو مايسمى في سورية جيش أبو شحاطة، دلالة على فقر وقلة نفوذ تلك القطعات العسكرية" الى الجيش خمس نجوم وهو إما مؤسسة الاستخبارات أو مؤسسة الجمارك أو الوحدات الخاصة أو سلك الشرطة. الأسد الأب مسؤول مباشرة عن توظيف المشائخ في علونة الدولة السورية أو علونة مؤسسة الجيش، حيث لاينسى السوريون الذين هم من جيلنا أو أكبر بقليل كيف كانت برامج الجيش الإذاعية في السبعينيات تتقدمها اللهجة العلوية عبر شخصية عسكرية كانت تتحدث في البرنامج يوميا ولسنوات .. كل هذا فعله الأسد الأب بدعم من زعيم جناح الصقور في الطائفة العلوية سيء السيط علي دوبا رئيس المخابرات العسكرية في سورية منذ سقوط غرناطة وحتى تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (!) لقد رزح هذا الرجل على قلب المؤسسة الأمنية والاجتماعية في سورية الى درجة أن خوف السوريين من بعضهم البعض ومن أنفسهم يرجع حصريا ومباشرة الى علي دوبا رجل الرعب والتخويف والتعذيب الذي لايرحم. باستلام الأسد الابن للسلطة وزواجه من سيده سنية حمصية، ظن المتحلقون حول الابن بأن الطائفيين ولوا الى غير رجعة. ولأن الأسد الابن لم ينجح في تقديم نفسه الى السوريين بأي صورة مقبولة سوى بظهوره أحيانا في الشوراع أو بعض المحال التجارية في حلب، فقد عاد الفرز الطائفي الى الواجهة، مجددا. بشار فشل في إقناع الشارع السوري بسوريّته. فهو كأبيه كرر الاستخدام المفرط للطائفة عبر تجنيدها والضغط عليها. وإن خفتت اللهجة العلوية قليلا من أقبية التعذيب ودوائر الدولة، إلا أن الأمر لم يقنع السوريين بلا طائفية هذا الرجل. بشار بدا، حقا، بأنه ليس رجل المرحلة أبدا. لقد فشل وحشر السوريين إما معه أو ضده. وأعاد توظيف العلويين الأشداء الذين عرف عنهم البطش والعنف وكذلك أعطى لأخواله من آل مخلوف كل النفوذ الاقتصادي والسياسي في البلد. ليغدو رامي مخلوف مثلا القبضة الحديدية الاقتصادية لبشار على الرغم من أن وجود عائلة أمه في مراكز النفوذ محرج جدا لأسطورته كزعيم تحديث إلا أن الأسد الابن شرب المقلب وظن أن السوريين شربوه معه وهذا لم يحدث. وبعد انتظار دام أكثر من عقد تأكّدَ أن الأسد الابن غير صالح أبدا للمرحلة وأنه يتحرك مابين الفشل والعجز، وأن سورية باتت أقرب لإخراجه من سدّة الحكم وفقاً للبيانات التالية: أولاً، بشار الأسد، في الأصل لم يأت الى الحكم عبر انتخابات أو عبر تدرّج في سلك وظيفي وليس له أي ذاكرة سياسية معينة تجعله شخصية توافقية تتناسب مع تركيبة المجتمع السوري. ولهذا هو في الأصل رئيس غير شرعي حتى بالمعنى الديكتاتوري للكلمة، أي أنه لم يكن جزءا حتى من مؤسسة الجيش التي لطالما استولت لنصف قرن على السلطة في سورية. ثانياً، مواصفات الاسد الابن لاتتمتع بأي جانب مشرق أو جذاب لزيادة عدد الموالين أو إقناع السوريين بقيمته. فهو لم يفشل فقط في مكافحة الفساد الذي استشرى منذ أيام الأسد الأب، بل إن الفساد في سورية ازداد أكثر في عهده وتحت رعايته، وليس وجود رامي مخلوف في الاقتصاد السوري إلا الدليل الأدل على حماية الأسد الابن للفساد ورعايته وتنميته. ثالثاً، على الرغم من أن الرئيس الشاب نشأ في وسط جامعي وعاش بعض الشيء في الغرب، إلا أنه عزّز السياسات التي دأب أبوه الراحل على اتباعها في توظيف الطائفة العلوية درعا لحماية النظام، وتصوير الطائفة كطابور سادس (نعم سادس!) للدولة. وإن كان الأب سيطر على التوسع الطائفي من خلال تعويم مبدأ القومية العربية، وإن شعاراً، إلا أن الطائفية توسعت في عهد الأسد الابن وازدادت على نحو غير مسبوق، وللمفارقة فقد توسعت الطائفية، هذه المرة، داخل الطائفة العلوية لا خارجها. مما يؤكد أن الابن ساهم في إقناع العلويين بأبديتهم في السلطة السورية، على عكس الأسد الأب الذي تحكّم في الإحساس الطائفي للعلويين وسمح بوجوده في إطار مكتوم غير معلن. رابعاً، إرث الأسد الأب المتمثل بالحفاظ على الاستقلال النسبي للسياسة السورية الخارجية، أهدره الأسد الابن في منح إيران دورا ونفوذا ليس على حساب الدولة السورية وحسب بل على حساب الوجود العربي الذي لطالما تغنت به المؤسسة الحزبية البعثية. والغريب أن الأسد الابن وطّد علاقاته بالدول غير العربية كإيران وتركيا، وفي الوقت نفسه لاتربطه أي علاقة جيدة بدول عربية تماثل علاقاته بأنقرة وطهران. خامساً، تضخّم الاعتقال السياسي والأمني في البلد على نحو غير مسبوق. فلم تمتنع مؤسسة الأمن من اعتقال حتى طلاب المرحلة الثانوية وإيداعهم السجن. سادساً، وهو طريقة تعامل الدولة السورية مع الاحتجاجات الأخيرة وتحديدا في درعا. فقد ظهر الوجه الأصلي للحاكم الشاب ولم تمنعه شهادة الطب من الامتناع عن إعطاء أوامر القتل بالجملة لأبناء شعبه. ومع أن كل ضحية تسقط في البلد تزيد من لاشرعية الرئيس فاقد الشرعية في الأصل، إلا أن ارتهان الرئيس الشاب للمؤسسة الأمنية وتحديدا دور أخيه ماهر جعل بشاراً في عين السوريين مجرد واجهة جامعية لمضمون بدائي عنيف يتولاّه الأخ والصهر وبقايا المرحلة الدموية. سابعاً، عودة إظهار اللهجة العلوية على وسائل الإعلام وتصوير أبناء الطائفة كأنهم مستهدفون بالثورة، يؤكد خطورة بقاء الأسد الابن في السلطة. فهذا الرجل لم يمتنع من اللعب على الوتر الطائفي وتخويف العلويين بأن التغيير القادم سيكون ضدهم هم فقط، في الوقت الذي كان شعار كل التظاهرات في سورية هو: واحد واحد واحد .. الشعب السوري واحد. وبالتالي، فإن الأسد والمحيطين به باتوا يشكلون خطرا ليس فقط على أبناء الطائفة العلوية وتعريضهم لرد الفعل الانتقامي، بل بات وجوده في السلطة يشكل خطرا على بنية الدولة السورية والمجتمع السوري بصفة عامة. فكل السياسات المتبعة الآن في الإعلام السوري باتت تركز على "ضحايا" من الطائفة العلوية ويتم إظهار أهلهم متحدثين متألمين، في إشارة خبيثة من الإعلام الخاضع لعَلْونَة الدولة بأن الثورات خطر على الأقليات وأن انتفاضة درعا تتوجه الى العلويين وحدهم. وهذه وحده يؤكد خطورة بقاء الأسد الابن في السلطة، كونه سيتسبب في شق المجتمع السوري وتحطيمه دفاعا عن بقاء النظام في الحكم. هذا فضلا عن أن أغلب قتلى الجيش السوري الذين يتم تصويرهم ضحايا ل" عصابات اجرامية" هم في الحقيقة ضحايا التصفية المباشرة من الجيش نفسه لتصوير الاحتجاجات على أنها عمل إرهابي يستهدف الجيش والدولة أيضا. وما الاعترافات التي يبثها الاعلام الرسمي لأفراد تم القبض عليهم، إلا اعترافات مفبركة قام اللواء رستم غزالي بتجهيزها وتأمينها من أبناء درعا التي ينتمي اليها. ولكي يفهم القارئ الأمر نذكره بمسألة شهود الزور الذين أربكوا الدولة اللبنانية في قضية اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، حيث قام غزالي نفسه بتسريب هؤلاء الشهود الزور الى مفاصل القضاء اللبناني، ثم سحبهم عبر تصوير أنفسهم كضحايا تم التغرير بهم ماليا. بينما الحقيقة أن الشهود الزور مزروعون مباشرة من غزالي نفسه في قضية اغتيال الحريري لإفقاد الصدقية للتحقيق والقضاء والمسألة برمتها. والآن يتبع غزالي المسألة ذاتها عبر زرع "إرهابيين" ثم سحبهم وتصوير اعترافاتهم. لو أراد الأسد الابن امتلاك شرعية ما لكان أعلن فورا على انتخابات رئاسية مبكرة، ولكان ترك إرثا لصالح مفهوم الدولة في البلد. إلا أن قناعة الحكم في دمشق بأنه فاقد للشرعية في كل الوجوه جعله يمتنع حتى عن مجرد الدخول في اللعبة الديمقراطية هذه. والغريب أن الأسد الابن لم يقتنع الى الآن بلا شرعيته ومازال يتصرف كما لو أنه منتخب من الأغلبية. ولو توفرت لدى الحاكم الشاب ذرة من وطنية ما لكان سارع الى تسليم السلطة مباشرة وفي شكل سلمي للسوريين الثائرين ضد حكمه وضد ذاكرته وضد الآلية التي أوصلته الى الحكم. فإذا جاء بشار الأسد في شكل غير شرعي الى السلطة، فإنه الآن يمارس السلطة على حساب حياة السوريين مباشرة. كل يوم يقضيه الأسد رئيسا لسورية يعني المزيد والمزيد من قتل الأمويين