مرت تركيا قرابة السنة ابتداء من احتجاجات ميدان تقسيم في صيف سنة 2013 وحتى الانتخابات البلدية نهاية مارس 2014 بأزمة حادة جدا، جعلت الكثيرين يبشرون بأفول العدالة والتنمية، إذ سارعت الكثير من الأوساط السياسية والإعلامية في العالم العربي إلى التهليل لما اعتبرته "ربيعا تركيا"، وبالغت من اليوم الأول للمظاهرات في رفع سقف نتائجها إلى إسقاط الحكومة، وآخرون اعتبروا أنها إذا لم تكن نهاية الحزب فهي بداية نهاية أردوغان، حتى أن هناك من بشّر بالنموذج المصري في الانقلاب على الرئيس مرسي، والذي صور بأنه ثورة سيستلهم منها الشعب التركي لإسقاط أردوغان، فضلا عن تكهنات حول حصول انقسامات داخل الحزب نفسه. غير أن الأمور لم تلبث لتعود إلى نصابها وعلى العكس انتهت قضية "الأرغيكون" إلى الحكم بالمؤبد على القائد السابق لأركان الجيش المخطط الرئيسي لمحاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية، كما انتهت المظاهرات بتراجع الحكومة عن قرار "قطع الأشجار" الذي كان السبب المباشر لاندلاع المظاهرات. لتعود نفس الأسطوانة بعد القرارات الأخيرة التي اتخذها رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان بعيد الانتخابات البلدية بقراره حضر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، نتيجة الحملة ضده بتهم فساد لوزراء في حكومته، وحتى أحد أبنائه، وجه عندها أردوغان أصابع الاتهام لجماعة فتح الله كولن بالوقوف وراء تلك القضايا، وما رافقها من تصريحات متبادلة بين الرجلين كشفت عن خلاف وصراع بينهما، وهو ما عزز من أطروحات سقوط أردوغان بمصادمته ما توصف "بجماعة الخدمة"، وأنها كما كانت السبب في صعوده ستكون هي أيضا سبب هبوطه، خاصة في ظل القوة الكبيرة التي تتمتع بها الجماعة. وكل ما أثير من قضايا فساد وتسريبات وحتى قرارات أردوغان لم تؤثر على شعبيته، بل جاءت بنتائج عكسية، وهذا ما كشفته الانتخابات البلدية التي أصبحت مؤشر للانتخابات التالية. ومتابعة القراءات العربية للأزمة التركية نستخلص منها استنتاجات عديدة أهمها: 1- قضية "أرغينيكون" كانت حاضرة في خلفية المشهد التركي وفي مقدمة المشهد المصري حيث أن الانقلاب العسكري نسخة مصرية من "أرغينيكون" كللت بالنجاح النسبي، ومن المتهمين في القضية وعددهم 275 قائد القوات المسلحة المتقاعد "الكر باشبوج" وضباط آخرون بالجيش وساسة وأكاديميون وصحفيون. ومن وقف وراء الانقلاب في مصر أيضا قيادات عسكرية وأحزاب سياسية علمانية تشترك في عدائها للأحزاب الإسلامية، ورجال أعمال وإعلاميون، وأكاديميون، وحتى تيارات إسلامية. فالمشهد نفسه تكرر القوى التي يفترض أنها علمانية وليبرالية تناضل من اجل الديمقراطية ليس لها مشكل في التحالف مع العسكر في ضرب لأهم المبادئ الديمقراطية، وانتهاج وسائل غير مشروعة بما في ذلك الدعاية المغرضة للتغطية على الجرائم. وهو نفس ما يجري في تركيا. 2- المظاهرات في تقسيم كانت محاولة من الدولة العميقة التي باتت تلفظ آخر أنفاسها في تركيا لذلك جاءت ضعيفة، على عكس الانقلاب في مصر الذي نجح نسبيا في تحقيق أهدافه مرحليا ونجاحه هذا راجع لقوة الدولة العميقة، التي هي الأخرى مع تقادم الزمن ستأخذ طريقها إلى الانحصار شيء فشيء وقد يستمر ذلك لعقود. من هنا يقارن مرسي بنجم الدين أربكان الذي انقلب عليه العسكر في منتصف تسعينيات القرن الماضي ليعود أردوغان بعد أقل من عقد ويحقق ما عجز عنه ما سبقه، بل ويحاسب الإنقلابيين. 3- لا ينفي هذا عفوية المظاهرات في بدايتها من طرف المدافعين عن البيئة، لكن سرعان ما استغلتها المعارضة العلمانية بمختلف تياراتها اليمينية واليسارية، ودخل على خط المواجهة كل طرفا وفقا لمصالحه، وبغض النظر عن الجدل حول البداية فإن المرحلة التالية للمظاهرات هناك إجماع على وقوف طرف سياسي وراءها، خاصة مع دعمها من طرف وسائل الإعلام المناهضة للحكومة. والحركات الاحتجاجية المنظمة بهذا الشكل هي التي تنطبق عليها نظرية المؤامرة. وهنا بدأ مستوى من العمل المؤامراتي استطاعت الحكومة إجهاضه باحتواء الموقف. وهذا على عكس الحالة العربية التي كانت المظاهرات أيضا عفوية ولوجود أسباب موضوعية بينها عقود من الاستبداد والظلم انتهت الحركات الاحتجاجية إلى ثورات عارمة أسقطت العديد من الرؤساء، ولاحقا حاولت كل الأطراف التدخل لخدمة مصالحها، ومن هنا تظهر المؤامرة ضد الثورات، وردود فعل الأنظمة هي التي تحكمت في مسارها. فالمؤامرة إذا في هذه الحالة فعل لاحق وليس سابق للحدث. 4- عرضية الحدث حالت دون انتشاره وإستمراريته واكتسابه زخما كبيرا، وقد أدركت حكومة العدالة والتنمية أن مواجهة المظاهرات واستعمال القوة القانونية من خلال الوسائل التي لا تودي بحياة الأتراك كاستعمال خراطيم المياه، كان يدفع إلى تحولها عن مسارها ولذلك انتبهت لهذا الخطر وقررت ترك المظاهرات تأخذ مادها الطبيعي، وعرضية السبب جعلتها هي الأخرى عرضية أيضا لذلك انتهت بحله، ولم تلقى دعوات المعارضة لاستجابات شعبية واسعة، وعلى العكس استطاع حزب أردوغان أن يحشد في المظاهرات أعداد أكبر بكثير من تلك التي كانت في المظاهرات المضادة. ومجرد الفارق في أسباب المظاهرات يعكس حجم الهوة بين الحالة التركية والحالة العربية، فبينما يتظاهر الأتراك من أجل حديقة كان الهدف من تغييرها مشروع تنموي، تندلع مظاهرات العرب بعد حرق جسد وتقليع أظافر لرفع يد القهر والظلم الممتدة ليس فقط منذ عقد وهو عمر حكومة العدالة والتنمية وإنما قرابة الخمس العقود من الظلم والطغيان. 5- تَقدم اليسار العربي المؤيدين والمهللين للمظاهرات في تركيا ودوافعه في ذلك عدة أسباب، في مقدمتها وقوف الحزب الشيوعي التركي وراء المظاهرات، وعدائه للاتجاه الإسلامي، وبينما كان طيلة السنوات الثلاث من بداية الثورات العربية يعزف على وتر المؤامرة لتبرير دعمه لنظامي معمر القذافي وبشار الأسد تحول فجأة إلى الحديث عن ربيع تركي متناسي نظرية المؤامرة، ثم بعد الانقلاب المصري أيضا أغفلها ودعمه ما يعكس الخلفية الأيديولوجية والانتهازية التي تحرك المواقف السياسية لهؤلاء وتهافتها. 6- إذا كانت شرعية "الإنجاز" أي ما حققه حزب العدالة والتنمية من نمو اقتصادي باهر في ظرف قياسي، فضلا عن شرعية "الصندوق" لم تمنع من بروز الحركة الاحتجاجية التي كانت احتمالات تصاعدها واردة ضد أردوغان فإنه في الحالة العربية حيث الوضع الاقتصادي المزري والذي من الصعوبة بما كان رفده في ظرف قصير سيفاقم من مشاكل الحكومات، وهذا ما حصل في مصر حيث كان للأزمات الاقتصادية دور في تأليب الجماهير على الرئيس مرسي واستغلتها القوى الانقلابية للانقضاض على الحكم. ولكن في الأخير عادت الشرعيتين لتؤكدان وتعززان مواقف أردوغان، وتمنعان اتساع الاحتجاجات أكثر، ويتأكد كل ذلك بفوزه في الانتخابات البلدية. والأسباب نفسها هي التي ستؤدي إلى سقوط الانقلاب المصري إن عاجلا أم آجلا. 7- استطاعت المرونة السياسية لقيادات حزب العدالة والتنمية وفي مقدمتهم رجب طيب أردوغان ورئيس الجمهورية عبد الله غول الذي أبدى اعتراضه أكثر من مرة عن قرارات شريكه ورفيق دربه امتصاص الاحتجاجات -وهي التي يستند عليها القائلون بقرب الفراق بين الرجلين مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي يعتزم أردوغان الترشح إليها وفق المتاعين، وأيضا احتمال ترشح غول لعهدة ثانية-، هذه المرونة مطلوبة أكثر عند القيادات السياسية الإسلامية في المنطقة العربية، خاصة وأنها من حيث شرعية الإنجاز ضعيفة، وشرعية الصندوق غير مترسخة إجرائيا وثقافيا، ناهيك عن الوعي السياسي لدى الشارع العربي الذي لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بوعي الشارع التركي، فضلا عن امتلاك الخصوم لمعظم وسائل الإعلام، وغياب إعلام موازي بنفس الحجم والقوة. 8- البعد الهوياتي والاصطفافات الأيديولوجية المتجاوزة للحدود حقيقة أصبح من العبث دس الرؤوس في الرمال وإغفالها، فكما كان البعد الطائفي العلوي أحد الأسباب في تأجيج احتجاجات تقسيم بل والسبب الحقيقي في التحاق هذه الطائفة بها تضامنا مع النظام العلوي في سوريا الذي أدان عنف السلطات التركية ضد المتظاهرين بطريقة سمجة. والإصطفافات الأيديولوجية لم تكن غائبة في الساحة المصرية بعد الانقلاب بتخندق المؤسسة الدينية القبطية وجزء كبير من هذا الشارع إلى جانب القوى الانقلابية، وهو نفس البعد الذي حرك الشيعة طيلة العقود الأربعة الماضية بشكل خاص، وانكشف بشكل فاضح في سورية. 9- دخول حركة فتح الله كولن في خط الصراعات بل وتصدرها أخطر السلوكيات ضد حكومة أردوغان بتسريب أشخاص محسوبين عليها التهم المتعلقة بفساد الحكومة وتأييد الإعلام التابع لها لمظاهرات تقسيم التي لم تشارك فيها الجماعة، لدرجة وسمها بالدولة الموازية كخطر جديد بعد الدولة العميقة تكشف الاحتمالات الواردة للانقسامات داخل الاتجاهات الإسلامية حتى إذا وصلت للسلطة، وقد تزداد بشكل أكبر مما هي عليه في المعارضة، وأهم الأدلة على ذلك ما جرى مثلا في حركة مجتمع السلم الجزائرية التي انقسمت لمرات متتالية، وكانت الانقسامات أهم ما حصدته من مشاركتها في السلطة خلال أكثر من عقد، كما أن تلك الصور الزاهية التي ترسمها الحركات الإسلامية عن التجارب المماثلة في بلدان أخرى تجعلها تصطدم بأي إخفاق مهما كان حجمه، إذ ليس من الهين أن يتحول رمز مثل فتح الله كولن من رائد تجديد إلى متآمر مؤيد للصهاينة بسبب موقفه من حادثة سفينة "مافي مرمرة" وتحميله مسؤولية ما جرى لحكومة أردوغان، ومعارضته لها ووقوفه إلى جانب العلمانيين واستعداده للتحالف معهم ضدها. 10- كشف الخطاب العلماني عن انتهازية لا علاقة لها بالمبادئ والعلم في نقده للحالة التركية، حيث وصف أو تبنى أو ركز على الخطاب الذي يصف أردوغان بالديكتاتوري، وحتى بعد الانتخابات البلدية تم التركيز على المستقبل الذي سيكون عليه الوضع في تركيا لاهتمامه ب"النزعة التسلطية " عند أردوغان والتي رجح أنها ستزداد بعد توجيه رسائل قوية لمعارضيه، في خطاب الاحتفال بفوز حزبه ليلة إعلان النتائج. هذا الخطاب لما يصدر من نخبة تدافع عن الانقلاب في مصر وتدافع عن زعيمه وتجد له التبريرات والأعذار يستحق أن لا يلتفت له من الأساس.