طويت صفحة نظام مبارك واستقبلت مصر عهدا جديدا تتلمس فيه مستقبل أكثر عدالة وحرية. لكن لا يمكن لمصر وهي تسير نحو المستقبل أن تغفل عن العلاقة مع الولاياتالمتحدة، ذلك القطب المهيمن على إدارة أغلب شئون العالم، والمتابع للموقف الأمريكي منذ الخامس والعشرين من يناير يلاحظ كيف وجد الأمريكيون أنفسهم في حيرة ثلاثية الأبعاد: أولا: لا يستطيعون قراءة المشهد المصري بدقة، وثانيا: لا يملكون أدوات تحريك المشهد كما كانوا يظنون، وثالثا: لا يتحملون رفاهية الانتظار حتى تنجلي عاصفة التغيير، لذلك كان الموقف الأمريكي يتغير كل يوم، وأحيانا بمنطق توزيع الأدوار كان كل معبّر عن سياسة أمريكا الخارجية يقول شيئا مختلفًا، تحاول أمريكا أن تضرب في كل الاتجاهات، وتخشى أن تراهن على الحصان الخاسر. على كلٍ أصبح نظم مبارك ماضي كئيب طوينا صفحته، وتستكمل مصر حريتها بانتخابات برلمانية ورئاسية ودستور جديد، لكن أيا كان شكل النظام القادم وأيديولوجيته فإن علاقة مصر بأمريكا من ثوابت العلاقات السياسية (دولية وإقليمية). ونحن هنا نكتب لمصر الدولة والكيان لا لنظام سياسي معين، نكتب للشعب الواعي الذي غير وجه التاريخ لا لبعض النخب والأحزاب التي تجاوزها الزمن، نكتب ونحن على يقين بأن هناك من يتابع ويقرأ ويحلل ويستشرف محاولا رسم معالم مستقبل أكثر إشراقا يستحق ما أريق في سبيله من دماء وتضحيات. حدث التغيير في مصر فما هو موقف الولاياتالمتحدة - أهم ركن في النظام الدولي المعاصر- وكيف سيكون شكل علاقتها مع مصر؟ وما هي التهديدات المحتملة للمصالح ومناطق النفوذ؟ وكيف تسير العلاقة بينهما بمعادلة فوز- فوز، وليس خسارة - خسارة. نحاول الإجابة على ذلك المركب من الأسئلة من خلال العناصر الآتية: أولا: الكيفية التي تُبني بها السياسة الخارجية الأمريكية تستمد السياسة الخارجية الأمريكية من تفاعل ثلاثة عناصر هي: 1- "إدراك" يقرره أشخاص أساسييون للصلات بين القضية المباشرة والمصالح الأمريكية الثابتة. 2- المناخ الذي تشكّله ظروف سياسية إقليمية وعالمية هامة تنصب على القضية. 3- التركيبة السياسية الأمريكية، وهي الإطار الداخلي الذي لابد من تقييم طرق العمل الممكنة فيه باعتبارها خيارات سياسية واقعية. وإذا طبقنا تلك العناصر على استشراف موقف أمريكا لأهمية مصر (الموقع والسكان والعلاقات) نجد أن هناك ثلاثة عوامل للاهتمام الأمريكي بالمنطقة الممتدة من باكستان إلى ليبيا ومصر على وجه الخصوص وهي: أ- تقدم الولاياتالمتحدة معونات ضخمة لكثير من حكومات هذه المنطقة. ب- تخشى الولاياتالمتحدة من تأثيرات "نظرية الدومينو" على منظومة دول المنطقة إذا ما وصل لحكم مصر نظام معادي لها أو لسياساتها. ج- العمل على حماية مصالح الولاياتالمتحدة الإستراتيجية في المنطقة. 2- أما المناخ "الظروف الإقليمية والدولية العامة السائدة" الحالي فيؤثر بلا شك على عملية اتخاذ القرار لذلك نجد تأثيرات ما يسمى "بالإسلام السياسي" على عقلية النخبة السياسية الأمريكية وعامة الشعب الأمريكي الذين تشكل عقولهم أدوات الإعلام الضخمة Multi Media. 3- أما ثالث تلك العوامل فهو الخاص بالتركيبة السياسية الأمريكية إذ أن صنع السياسة الأمريكية أولا وقبل كل شيء هو مشروع تنافسي، فالنظام الذي يوجد البيت الأبيض دستوريا وعمليا على رأسه هرميّ الشكل يشمل بالإضافة إلى الرئيس ومستشاريه الأجهزة الإدارية والكونجرس والأحزاب السياسية وجماعات المصالح والضغط المنظمة، وهذه التركيبة تدعو حتما إلى المشاركة وبنفس الحتمية فإنه تتجمع في أعلى الهرم أراء متعارضة، وتكون النتيجة النهائية غالبا حلا وسطا أو عدة حلول وسط من بين أفضليات مختلفة، يغلب على الظن أنها الأوفق للمصالح الإستراتيجية الأمريكية. ثانيا: وضع مصر في الإدراك الأمريكي أساس اهتمام الإدارات الأمريكية المتعاقبة بدور مصر مرتكز على دورها الإقليمي، فخلال السبعينيات لعبت الإدارة المصرية دور الحليف الثاني للولايات المتحدة في المنطقة بعد إسرائيل، وفي الثمانينيات طورت الإدارة المصرية علاقاتها مع الحليف الأول "إسرائيل" بحيث لعبت دور المدخل الذي ولجت من خلاله إلى المنطقة بشكل أعمق، وفي التسعينيات مثلت الإدارة المصرية حجر زاوية عملية التسوية الشاملة، وعلى مدار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهدت الساحة الإقليمية جمودا على مختلف الصعد لأن الحليف الأول لأمريكا لا يريد أن يدفع استحقاقات ما يسمى بعملية السلام. ورغم إيمان الإدارات الأمريكية المتعاقبة بدور مصر الإقليمي والاعتراف بمحوريته إلا أنها دائما ما كانت تعمل على خفض سقف حركته وتحاذر أن يصل الدور المصري إلى درجة تتيح له التحرك منفردا في المنطقة، بالإضافة إلى أن أمريكا أصبحت تتدخل بنفسها وبعلاقتها المباشرة مع كل الأطراف. كما لم تربط نفسها بفكرة أن دولة عربية واحدة مثل مصر أو السعودية يمكن أن تعمل كوكيل إقليمي يمارس مختلف مهام "الوكيل". لقد ظل الهدف الأمريكي هو الحفاظ على علاقات متميزة مصر الدولة، والحفاظ على النظام السياسي المصري القائم بتوجهاته الإستراتيجية نحو الغرب وإسرائيل ولا يعني ذلك الحفاظ على "شخص الرئيس" الموجود بقدر ما هي رغبة في الحفاظ على شكل الحكم والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هي المهمة. ثالثا: مناطق تماس المصالح والتقاء النفوذ تحتاج الولاياتالمتحدة مصر "كدولة ونظام سياسي" لتأمين مصالحها فيما يسمى الشرق الأوسط وبذلك تضع الولاياتالمتحدة ثقل مصر الكبير في الاعتبار ولو قدر لها (لأي سبب من الأسباب) أن تنقلب على الولاياتالمتحدة فإن واشنطن ستجد من الصعوبة بمكان أن تظل متمسكة بمكانتها في المنطقة. لذا فإن الصراع الدائر الآن على الساحة الأمريكية هو بين مصالح الولاياتالمتحدة وقيمها كالديمقراطية وحقوق الإنسان وعلمتنا تجارب التاريخ المعاصر أن الولاياتالمتحدة دائما ما تنحاز إلى مصالحها إذا تعارضت مع قيمها، فإذا ما أتت الديمقراطية بقوى تعتبرها معادية لمصالحها يختلف موقف أمريكا. وتحتاج مصر الولاياتالمتحدة كقطب دولي مهمين على أغلب المنظومات الدولية سواء من حيث التعاون والصراع، بالإضافة إلى أذرعها الممتدة والنافذة على أغلب محاور الإقليم. ومن ثم فعلى النظام المصري أيا كان شكله ألا يضرب بمواطن ضعفه في مناطق قوة الولاياتالمتحدة، ويسير حثيثا بتجربته الوليدة حتى يكتب لها النجاح، وألا تجهض ما بين سندان مصالح الولاياتالمتحدة وقيمها. رابعا: درجة الاحتكاك والحد الأقصى للتنازل من كلا الطرفين على مدار عقود طويلة من صعود الدور الأمريكي عالميا بعد الحرب الثانية وطوال مرحلة الحرب الباردة انحسرت أهداف الولاياتالمتحدة في منطقتنا في أمرين هما: البترول وأمن إسرائيل وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة صعد هدف ثالث على رأس أهداف الولاياتالمتحدة وهو نشر القيم الأمريكية أو بالأحرى منظومة الحياة الأمريكية Americans Way of Life وحاولت الولاياتالمتحدة في أغلب دول العالم إحداث اقتران رومانسي بين المصالح الأمريكية والقيم والتقاليد الأمريكية. واتجاه التغيير في مصر يتماشى مع القيم الأمريكية المنادية بحرية الشعوب وحقوقها في اختيار نظامها السياسي، وعلى النظام المصري القادم أن يحدد خريطة إدراكية لمجمل علاقات المنطقة لا تزج به في أتون صراعاتها، وما بين الدور الإقليمي الفاعل وعدم استنزاف القوى والمقدرات من المفترض أن تفكر وتسير مصر القادمة.