تعاقب الليل و النهار منذ مساء الحادي عشر من فبراير التاريخي ، و الذي أعلن فيه نبا "تخلي" الرئيس السابق مبارك عن منصبه طواعية ، و توالى سقوط رؤوس الفساد حتى أصيب الناس بالذهول ، سواء من الأسماء التي افتضح أمرها و لم يكن يتوقع أحد تورطها في أطنان الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب ، أو من حجم الأرقام التي تشير إلى كم الأموال المنهوبة من دم الناس و عرقهم ، مما جعل السؤال المرعب يتبادر إلى ذهن كل مصري : إلى أين تمتد سلسلة الفساد ؟؟؟؟ الحق أقول فقد كنت من الناس اللذين يعارضون رحيل رئيس الوزراء السابق احمد شفيق ، ليس اقتناعا به ، ولكن لأن الحجة عند من يريدون ذلك هي أن الرئيس المتخلي عن منصبه هو الذي عينه ، فبعد أن رحل وصل الشطط بالبعض إلى درجة المطالبة بإقالة النائب العام و وزير الدفاع و رئيس الأركان دافعين بأن كل هؤلاء تولوا مناصبهم في عهد مبارك ، الأمر الذي يعني بالتبعية التخلص من كل هؤلاء و من كانوا حولهم بحجة امتداد سرطان الفساد إليهم ، و هو المنطق الذي سيؤدي إلى فتنة حقيقية تأتي على الأخضر و اليابس ، فلنا أن نتخيل قادة الجيش و هم مطالبون بالتخلي عن مناصبهم و الرحيل ، بل و قد يرتفع سقف المطالبات إلى حد المطالبة بمحاكمتهم ، و كلنا يعلم أن الجيش هو من حمى تلك الثورة التي كان من الممكن أن يكون هو الأداة الناجعة للتخلص منها ، مما يعطي دليلا على أن الجيش اتخذ جانب الشعب بعد أن حاول البقاء على الحياد ، إلا أن الإصرار الشعبي حال دون استمرار ذلك و اضطر الجيش في النهاية إلى الانحياز إلى الشعب الذي أتى منه . و لكن الدعوات المنطلقة في مواقع الشبكة العنكبوتية و التي تحاول مد أمواج الثورة إلى شواطئ المؤسسة العسكرية لا عقل لها ، ربما يكون الهدف نبيلا و مسوغاته من بطء أو تباطؤ إجراءات محاكمة رؤوس الفساد معقولة و منطقية ، إلا أن محاولة استخدام سلاح الاحتجاج و الثورة على الدوام قد لايجدي من جهة ، أو قد يصل بنا إلى حافة الهاوية من جهة أخرى ، فربما يكون متوقعا من قادة الجيش في حالة الإشارة إليهم باصابع الاتهام أن يصموا آذانهم عن الأصوات المطالبة برحيلهم و تسليم المسئولية إلى "آخرين" ، الإجراء الذي يعني استمرار الاحتجاج و تطوره إلى الدرجة التي ستدفع بالبلاد حتما إلى حالة فوضى حقيقية تفوق بشدة نظيرتها التي واكبت انسحاب الشرطة من الشارع ، أو أن يتخذوا رد فعل عنيف و حاسم بداعي حفظ أمن البلاد و نظامها ، أي أنه على أي حال سنكون متحركين و بسرعة جنونية في اتجاه مصير مجهول بدعوى التطهير و اقتلاع جذور العهد البائد. لست مناوئا للتغيير كهدف ، و لكن العبرة بالأداة و استخدامها ، من السهل تغيير الجوامد من الأشياء أو الماديات حتى لو تكلف ذلك الكثير من المال و الجهد ، إلا أن تغيير السلوك و الأخلاق هو الأشد صعوبة حتى على المستوى الفردي ، فما بالنا بالمستوى الجماعي ، و ذلك لأنه الحل الجذري و الأمثل لمشكلة الفساد الذي يستشري من الوزير إلى الخفير ، فما انتظاري لثمرة تفاح من شجرة جميز إلا نوعا من الغباء ، لابد من اقتلاع الشجرة بالكامل بدلا من حقنها بالأسمدة و رشها بالمبيدات ، و اقصد بالشجرة هنا الشعب بالكامل متضمنا النظام الحاكم الذي جاء منه و ليس النظرة السطحية التي لا ترى سوى الحاكم كسبب للمصائب التي تنزل بالعباد. فالمسالة أكبر و أعمق بكثير من مجرد تغيير نظام حاكم ، فقد استثار أعصابي ملصق انتشر كالنار في الهشيم في أعقاب سقوط النظام السابق ، و كان مضمونه يحوي عبارات من عينة : "من النهاردة دي بلدك ، ماترميش ورقة على الأرض ، ماتكسرش إشارة ، .." إلى آخر تلك النصائح التي تعد من قبيل اللغو الفارغ ، فهل كنا ننتظر رحيل مبارك حتى نكون نظيفين ؟!! هل كنا ننتظر سقوط النظام حتى نصبح منظمين ؟!! هل كنا ننتظر زوال بعض الوجوه الكالحة حتى نصبح متحضرين ؟!! لا أرى في ذلك حقيقةً سوى منطق براجماتي متعفن ، و كأننا نفعل كالصبية في مشاجراتهم على طريقة "سيب و انا اسيب" !!! لقد حكم الله على بني إسرائيل بالتيه أربعين سنة جزاءا لما اقترفوه ، و ذلك حتى يتغير الجيل و يشب نشء قادر على حمل المسئولية و مجاهدة نفسه قبل مجاهدة عدوه. فكم نحتاج حتى نثوب إلى رشدنا ؟