إذا كان عدد من علماء المسلمين قد نصحوا العلماء بأن يكونوا بعيدين عن الأمراء، حتى يكونوا بعيدين عن سيف المعز وذهبه، مما يجعل الشبهة تطول ما ينتهون إليه من أفكار، فقد عاهدت نفسى على الالتزام بهذه النصيحة الغالية، معظم فترات حياتى العملية، على الرغم مما فى صحبة السلطان من متعة الكسب المادى الوفير، والنفوذ المحسود. لكن الحق أقول، أننى فى شهر مارس شعرت بأن هناك خسارة على قدر كبير من الأهمية تضيع علىّ، لا تتمثل فى مال أو نفوذ، وإنما فى افتقاد الكثير من المعلومات والحقائق الخاصة بحركة الواقع التعليمى، حيث أتيحت لى لأول مرة منذ سنوات، أن أُطل على بعض ما يجرى فى واقع التعليم. إنها حقا مشكلة بالنسبة لمثلى، فالاشتغال بشئون الفكر والرأى، مهما كانت أهميتها، بحاجة مستمرة إلى أن تتغذى على ما يبثه الواقع من معلومات وحقائق، لأن وظيفة الفكر، إذ تتبدى فى نقد الواقع، وحسن توجييه، فمعنى هذا أن يكون الناقد، والموجه، على دراية بأبعاد هذا الواقع . لكننا فى مصر مع الأسف الشديد نجد مؤسسات العمل والممارسة تخاصم أمثالنا، ولا تهتم أبدا بإطلاعهم على ما يجرى، لأنهم يعرفون سلفا أننا سنقول كلمة الحق والصدق، مهما كانت مؤلمة، ولأننا لا نطمع فى " كرسى "، ولا فى " مال .وفى الدول المتقدمة، ليس من الضرورى القرب من السلطان حتى يكون الإنسان على دراية من حركة الواقع، فالغطاء هناك مكشوف، والحقائق متاحة، بغير تزييف، ولا تزيين وتجميل، وهى حق لكل مواطن. وكان مجرى الأحداث التعليمية، يثير مناقشات ومجادلات بين قوى مجتمعية متعددة، فكان يحدث أن يتصل بى صحفيون يسألونى فى هذا وذاك، لحسن ظنهم بشخصى، وما تصوروه لى من مقام عال فى الفكر التربوى، فيكون ردى هو الاعتذار، لأن حدود معلوماتى عما حدث ويحدث، هى ما ينشر فى الصحف، التى لا أضمن أن ما نشرته محيط ودقيق. ولا أخفى على القارئ أننى – بينى وبين نفسى- كثيرا ما كنت أتعجب: كيف لا يهتم أمراء التعليم، بأن يرسلوا لنا، نحن الذين نُعَلِّم آلاف المعلمين، ولنا عشرات الكتب التى تناقش قضايا مختلفة فى التعليم، منذ عشرات السنين، " نسخة " من هذا المشروع أو ذاك، من هذا التقرير أو ذاك، من هذا القانون أو ذاك؛ كى ندلى فيه برأينا ؟ هل لابد أن نكون من الواقفين على أبواب الأمير، وحراسه، وضاربى الدفوف، وترزية التعليم ؟! ربما الفترة الوحيدة التى اقتربنا فيها من سلطة التعليم، عندما توزر الدكتور أحمد جمال الدين، سنة 2004، حيث نفذ اقتراحا تضمنه مقال كانت جريدة الوفد قد نشرته لى، بأن تكون هناك لجنة حكماء من كبار العلماء والمفكرين، يجتمع معها الوزير من حين لآخر، للتشاور فى أحوال التعليم، لكن، لأن الرجل كان نظيفا، لم يستمر فى وزارة " نظيف" ! أكثر من عام، حتى لقد اتخذت لنفسى قاعدة، تقول بأن الوزير الذى لا يستمر- فى عهد غير المأسوف عليه - فهذا مؤشر على عدم فساده، أما إذا طال توزره ، فهذا مؤشر على فساده، ما دامت المنظومة القائمة للحكم بمثل هذه الصورة التى تفوح روائحها الكريهة يوما بعد يوم. ومنذ أسابييع قليلة، تلقيت دعوة تليفونية من مكتب وزير التربية بأن ألحق باجتماع دعا إليه مع عدد من معاونيه، وبعض أساتذة التربية وخبراء التعليم. وعندما تلتقى بالدكتور أحمد جمال، فى أيامنا الحالية، وأستحضر هنا حواره مع" شريف عامر " على قناة الحياة منذ أسبوعين على وجه التقريب، لابد أن تهاجمك على الفور صورة الوزير السابق أحمد زكى بدر، من فرط التناقض الصارخ بين الشخصيتين، فالدكتور أحمد جمال، هادئ هدوءا شديدا، والثانى، يعشق الجلبة والحركة المفرطة..الأول، يتكلم بصوت خفيض، هادئ، والثانى، عندما يتحدث ، يجعلك تتصور أن بينك وبينه ثأر، يريد أن يأخذ به..الأول، تشعر بأنك أمام " قاضى "، يزن كل كلمة تخرج من فمه، ولا يزيد ولا ينقص، فيما يقال، والثانى، كأن فى فمه مدفع رشاش، يصوب كلماته، وكأنه فى معركة ملاكمة أو مصارعة..الأول لا ينطق بكلمة تخدش صورة أحد، ولا كرامته، والثانى، عندما يتحدث إليك أو إلى الناس، كأنك تخوض معركة معه، وهو لابد أن يخرج منتصرا، بالحق أو بالباطل! فى هذا الاجتماع المشار إليه، شعرت بكم الغربة التى أعيشها عن " واقع " التعليم فى مصر، وبدا أن الوزير قد حرص على أن يعطى معاونوه صورة حقيقية عن الواقع، بعيدا عن التزييف والتجميل المعتاد فى المواقف الرسمية فى مصر، بل فى العالم العربى، وفى كل الدول المتخلفة بصفة عامة. كان مما أفزعنى حقا، ما سمعته عن حال التعليم الفنى الذى كتبت عنه أكثر من مرة، فهو يضم ثلثى طلاب الثانوى فى مصر، ومع ذلك فهو على حال غاية فى السوء، فى الوقت الذى هو الأكثر اتصالا بحركة التنمية، اتصالا مباشرا..ومع كل هذا، لا يحظى باهتما يستحقه، سواء من الدولة، أو من الرأى العام، حيث يستأثر التعليم الثانوى العام بالاهتمام كله. ويكفى، لتصوير هول الحال، أن يعرف القارئ أن التعليم الفنى – كما ذكر مسئول هذا التعليم أمام الجميع - يضم ما يقرب من مليونى طالب وأربعمائة ألف، وأن 10% من هؤلاء لا يعرفون القراءة والكتابة! لقد اختبرت أذنى فى صحة سمعها فورا فوجدتها تسمع جيدا..عبرت عن فزعى فى كلمتى التى قلتها، مستخرجا حقائق أخرى مفزعة تتضمنها هذه الحقيقة، أن هناك أربعا وعشرين ألف تلميذ فى التعليم الثانوى لا يقرأون ولا يكتبون، وتساءلت: كيف قضوا ثلاث سنوات فى المدرسة الإعدادية، وامتحنوا كل عام، وخاصة فى الشهادة الإعدادية ونجحوا؟ وقل مثل هذا عما قبل ذلك: كيف قضوا ست سنوات فى المدرسة الابتدائية، ونجحوا فى امتحان شهادتها، وسنوات النقل فيها ؟ واحسب معى: كما أُنفق على كل طالب، فى فترة تسع سنوات تعليمية، وفق حال الله أعلم ، منذ متى وهذا الحال قائم، وانظر : كيف ضاعت على مصر ملايين الجنيهات، دون أن نحصل على أى عائد منها، غير إضافة أعداد غفيرة إلى جيش الأميين!! وإذا سمعت معى عن حال المبانى المدرسية، التى هى وعاء التعليم، ومأواه، كما أن بيوتنا هى مأوانا الذى يضمنا، نسمع أن 35% من المدارس، تبلغ كثافة الفصل فيها أكثر من 40 طالبا..وأن 876 مبنى به أكثر من 70 تلميذ..وأن نقول " أكثرمن " فالحدود مفتوحة، حتى لقد ذكر المذيع " شريف عامر " ، أثناء المقابلة المشار إليها مع وزير التربية أن معلومة وصلت إليه بأن هناك مدارس بالجيزة، وصل عدد طلاب الفصل الواحد فيها إلى أكثر من مائة! تذكرت على الفور، وأنا فى زيارة لإحدى المدارس الإنجليزية ، عند زيارتى لبريطانيا عام 1982، أن سألتنى مديرة مدرسة رياض أطفال، عن عدد الأطفال فى الفصل عندنا فى مصر، فلم أقل لها الحقيقة، وقلت: عشرين! ومع ذلك، فوجئت بوجه السيدة تبدو عليها علامات الفزع الشديد!! وتتواصل الحقائق المُرة، فنجد أن 3518 مبنى مدرسى، يعمل أكثر من فترة.. وأن 748 نجعا، محروم من المدارس، وبكل نجع حوالى 500 طفل فى سن التعليم ، مما يعنى اضطرارهم إلى الالتحاق بمدارس تبعد عن محل إقامتهم عدة كيلومترات، وهم بعد فى سن الطفولة المتوسطة. أقول الحق، يومها خرجت، وأنا أحاول أن أراجع موقفى : كيف أكتب وأؤلف، وأُدَرِّس عن التعليم، وأنا بعيد عن حقائقه وواقعه؟ وفى الوقت نفسه، هناك تلك الحقيقة التى تؤكد أن القرب من الأمراء من شأنه أن يؤثر فى موضوعية ما نفكر فيه، ونكتب عنه؟ّ لكن ، فى الوقت نفسه، يفرض تساؤل آخر نفسه علىّ: وهل لا تتاح الحقائق إلا بالقرب من سلطة التعليم؟ هنا تبرز قيمة أخرى من قيم الحياة الديمقراطية، وهى ألا احتكار للحقيقة، التى يجب أن تكون متوافرة للجميع ،وخاصة ذوى الاختصاص والاهتمام والعلم.. ليست المسألة فقط مجرد الأرقام، إذ يمكن أن يردوا بأنها متوافرة، على موقع الوزارة فى الشبكة العنكبوتية، إذ المسألة تظل بحاجة إلى الكشف عن أبعاد أخرى، وتحليلات، ومؤشرات، ليست كلها متوافرة. اكشفوا الغطاء، لا لمجرد خوف أن يحدث عفن فى خلايا الواقع، نتيجة الابتعاد عن الشمس والهواء، ولكن،حتى نستطيع أن نعينكم بالرأى والمشورة، لأن مثلنا، ممن يجلسون " على الرصيف" ، يتميزون بخلوهم من شبهة " الغرض"، حيث لم يبق لهم من العمر إلا ما يرجون فيه أن يلقوا المولى عز وجل، وهم غير آثمى القلوب، ذلك أنهم لم يكتموا الشهادة الحق.