يبدو الحديث عن تطبيق النموذج التركي في مصر بعد الثورة الشعبية، وكأنه تغريد خارج مسار التاريخ. فالبعض يريد إقامة دولة يحكمها العسكر من وراء الستار، بأن يؤسس لنظام سياسي يسمح بتدخل الجيش لحماية طبيعة الدولة وتوجهاتها، كما فعل العسكر في تركيا بعد الانقلابات العسكرية. ورغم أن تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية تحاول تفكيك قوة العسكر وتمنع تدخلهم في السياسة، إلا أن بعض النخب السياسية في مصر تريد إعادة بناء النموذج التركي، والذي كان يمثل شكلا من أشكال الدولة العسكرية المقنعة، والتي تمارس فيها الديمقراطية ولكن في إطار مقيد، يسمح للجيش بالتدخل إذا وجد أن الديمقراطية تأتي بنتائج لا تتفق مع علمانية الدولة التركية المتطرفة، والتي فرضها الجيش على الشعب. وهذا البعض يقول أنه من دعاة الدولة المدنية، ويحاول تأسيس دولة تعتمد على التدخل السياسي للجيش، وكأنه يبني في الواقع دولة عسكرية وليست مدنية، ويعتبر أن تدخل الجيش لحماية طبيعة الدولة من الإرادة الشعبية الحرة هو حماية للثورة وللدولة المدنية. والحقيقة أن هذا الموقف لا يفهم إلا من خلال فك رموز المصطلحات، فالدولة المدنية المعنية لدى هذه النخبة السياسية، هي الدولة العلمانية التي لا تعادي الدين في حياة الأفراد، ولكنها تقصي الدين من المجال العام. فلا أحد يتكلم عن العلمانية المتطرفة التي تعادي الدين، لأن هذه العلمانية لا يمكن أن تقوم في مصر أساسا، ولكن الحديث يدور حول مجال عام خالي من أي تأثير للدين، حيث تصبح السياسة متحررة بالكامل من قواعد ومبادئ ومقاصد الدين، وبهذا يتم إنشاء دولة مدنية علمانية، يقوم الجيش بحراستها، ويمنع أي قوة لا تؤمن بالعلمانية المعتدلة من الوصول للسلطة، أو يمنع أي قوة إسلامية تصل للسلطة من الحكم طبقا لمرجعيتها الإسلامية. ومع ذلك يتكلم هذا البعض أحيانا، عن أن تنحية الدين بالكامل عن السياسة أمر غير ممكن، ولكن يوصف للدين دورا في الحياة العامة باعتباره مصدرا للأخلاق العامة، دون أن يكون مصدرا للقواعد العامة أو التشريع. وهو شكل من تنحية الدين، بالصورة التي لا تثير عداء الجماهير ولا تستفزهم، حسب تصور هذا البعض. معنى هذا، أن المطلوب هو بناء دولة علمانية معتدلة في موقفها من الدين ولا تعاديه، ولكن لا تعترف بأي دور للدين في بناء النظام السياسي والدولة. وبهذا يتم تحييد المادة الثانية من الدستور، والتي يمكن أن تبقى في الدستور الجديد، ولكن بدون وظيفة أو تأثير، كما كانت في الواقع في العهد السابق، أي يتم المحافظة على العنوان الإسلامي بدون أي تأثير لهذا العنوان، في محاولة لتجنب إثارة الجماهير. ومع تحييد مرجعية الشريعة الإسلامية، وتحييد أثر إسلامية الدولة، تصبح الدولة ضمنا علمانية، بعنوان إسلامي فقط، ثم يصبح من المطلوب من القوات المسلحة حماية هذه العلمانية من اختيارات الناس الحرة، فإذا اختار الناس التيار الإسلامي للحكم، لا يمكن هذا التيار من تنفيذ رؤيته الإسلامية، رغم اختيار الناس لها. وفي النهاية يرى هذا البعض من النخب، أن ما يتكلمون عنه هو الدولة المدنية، بل يتمادى هذا البعض ويرى أن الدولة المدنية التي تتكلم عنها جماعة الإخوان المسلمين، ليست دولة مدنية بالكامل، أو يرى البعض أن على جماعة الإخوان المسلمين تقديم الضمانات الكافية للتأكيد على أنها مع الدولة المدنية. لهذا يصبح من المهم أن نؤكد أن الدولة المدنية تمثل مصطلحا يعني الدولة غير العسكرية، وأن مصطلح الدولة المدنية ليس له تعريف محدد وهو ليس مصطلحا علميا، ولا معنى له إلا بوصفه نقيضا للحكم العسكري، حيث تصبح الدولة المدنية هي الدولة التي يحكمها مدنيون وليس عسكر. وغالب النخب العلمانية في مصر استخدمت هذا المصطلح في مواجهة الدولة الدينية، والدولة الدينية التي تتناقض مع المدنية، هي الدولة التي يحكمها رجال الدين، أو يحكمها حاكم يرى في نفسه القداسة والحق في الحكم باسم الله، وهو احتمال غير قائم في التجربة الإسلامية. إذن الدولة المدنية بهذا التعريف، هي كل دولة يحكمها مدنيون مختارون من الشعب، وهي بهذا نقيض للدولة التي يستولي على الحكم فيها فئة من الناس وتحكم بغير إرادة الشعب، وتجعل الحكم محصورا في فئة بعينها، سواء كانت العسكر أو رجال الدين. وعليه فإن كل دولة يحكمها حكام يختاروهم الشعب بإرادتهم الحرة، هي دولة يحكمها مدنيون، وهي بهذا دولة مدنية. معنى هذا، أن أي دولة يقوم فيها فئة محددة بدور فوق إرادة الشعب، هي دولة غير مدنية، سواء كانت هذه الفئة في الحكم أو تحكم من وراء الستار، أو يعطى لها سلطة فوق سلطة الناس. فإذا سيطر الجيش على الدولة وطبيعتها وتوجهاتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فالدولة لن تكون مدنية، وأيضا إذا سيطر رجال الدين على الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فلن تكون مدنية. وهو ما يجعلنا نعمم تعبير الدولة المدنية، لتصبح كل دولة ليست مستبدة، لأن كل استبداد هو نوع من الحكم على غير إرادة الناس، وكل دولة تحكم بغير الإرادة الشعبية الحرة، هي ليست دولة مدنية، وكل دولة تحكم من خلال الإرادة الحرة للناس، تصبح دولة مدنية. لذا فالدولة التي تقوم على أساس ولاية الأمة، هي دولة مدنية، تختار فيها الأمة هوية الدولة ومرجعيتها، وتختار حكامها وممثليها، وتحاسبهم وتعزلهم، وبهذا تكون الدولة وكيلة للأمة وخادمة لها، وهو أعمق تصور للدولة المدنية، أي الدولة التي يقوم فيها الحكم على الإرادة المدنية الشعبية الحرة. وإذا كان المقصود بالدولة الدينية، هي الدولة التي تحكم بالحق الإلهي وبفرض الوصاية على الناس، فالدولة التي تريدها بعض النخب السياسية هي دولة دينية أو عسكرية، تقوم فيها نخبة بالحكم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث تفرض إرادتها على الدولة، ويحمي الجيش هذه الإرادة. فالبعض يحاول بناء دولة تقوم على دور خاص للنخب العلمانية، بحيث تفرض هذه النخب طبيعة وهوية الدولة، ويقوم الجيش بحماية ما تفرضه النخب على الدولة، ويؤمن لتلك النخب دور يفوق الإرادة الشعبية الحرة، ويعلوا على إرادة الناس، بحيث تتمكن تلك النخب من مراقبة أي نخبة تصل للحكم، خاصة نخب التيار الإسلامي، وتمنعها من الخروج على مقتضى العلمانية، وتلجأ تلك النخب للجيش لمنع أي تيار إسلامي من الحكم وفقا لتصوره ورؤيته الإسلامية. والحقيقة أننا بصدد بعض النخب التي تصور الدولة المدنية تصورا يجعلها دولة الحكم بالوصاية على الناس، أي دولة دينية ثيوقراطية، دينها العلمانية، وتريد هذه النخب من الجيش أن يحمي مشروعها. وتلك مفارقة، فبعد ثورة شعبية رائعة، يريد البعض بناء ديكتاتورية جديدة، تحت عناوين مضللة، مثل عنوان الدولة المدنية، الذي يراد به عكس ما يفهم من معناه، فكيف تكون الدولة مدنية، ويفرض فيها الوصاية على الشعب، ويحمي الجيش هذه الوصاية المفروضة على الناس؟