في الوقت الذي يعلنُ فيه حلف شمال الأطلسي أنه دمَّر حتى الآن ما يقرب من ثلث القوَّة العسكريَّة للقذافي منذ بدء الحملة ضدَّه في الشهر الماضي، ما زالت قوات العقيد المجرم قادرةً على محاصرة المدن الليبية وضربها وقتل المدنيين وإرهابهم، وبالتالي فإن المهمة الأساسيَّة للقوى الغربية التي تحركت تنفيذًا لقرار مجلس الأمن ما زالت غير واضحة وغير محددة، بل أصبحت الشكوك تحوم حولها نتيجة الفتور الكبير الذي اكتنفها في الأيام القليلة الماضية وعدم توفيرها الإسناد الجوي اللازم لدعم الثوار، بل في ارتكابها الأخطاء التي أدت إلى قتل الثوار أنفسهم. فمن غير المعقول أن تعاود قوات العقيد المجرم تنظيم ودعم صفوفها والانقضاض مرةً أخرى على المدن التي تم طرها منها مثل بن جواد وراس لانوف والعقيلة والبريقة، والدخول في حرب شرسة وعنيفة ضدّ قوات الثوار، كل هذا وطائرات التحالف تحلق في السماء وترى ما يحدث على الأرض ولكنها تتفرج ولا تفعل شيئًا. ولذلك كان اعتراض قادة الثوار قويًّا على لسان اللواء عبد الفتاح يونس رئيس أركان قوات الثوار، الذي شكا من ضعف الإسناد الجوي لقوات حلف الأطلسي، مما جعل المجازر ترتكب ضدّ المدنيين ومما مكن الآلة العسكريَّة للعقيد المجرم لكي تعيث في الأرض فسادًا، فإذا كانت المهمة الأساسيَّة للقوات الغربيَّة هي حماية المدنيين، فإن هذه الحماية لم تتحققْ على الأرض حتى الآن. ورغم مضيّ هذه الأيام غير القليلة على العمليات الجوية الغربيَّة، فإن مدينة مثل مصراتة ترتكب فيها جرائم الحرب وتسوى بالأرض وتتحرك فيها قوات العقيد المجرم بحرية كبيرة، والمفترض أن الأولوية كان ينبغي أن تكون حماية المدنيين في مثل هذه المدينة وتخليصهم من الآلة العسكريَّة التي تسحقهم وتقتلهم وتهدم بيوتهم وتحاصرهم وتمنع عنهم الغذاء والدواء. ويبدو أن القوة الجوية بقيادة حلف الأطلسي تحافظ على توازن القوى في ليبيا، فهي تمنع قوات العقيد المجرم من التغلب الكامل على الثورة، لكن في نفس الوقت لا تقدم الدعم المطلوب للثوار من أجل تحقيق النصر الحاسم على النظام القمعي. ومما زاد من تعقيد الأمور أن القوة الجوية الغربيَّة أصبحت أقل فاعلية منذ أن تولى حلف الأطلسي القيادة ومنذ أعلنت الولاياتالمتحدة تخليها عن القيادة بل عن الاشتراك في الضربات الجويَّة. فاستعداد القوات الأوروبية في الحلف، ونوعية الأسلحة المتوفرة بحوزتها لتنفيذ غارات جوية، يبدو أنه ليس على ما يرام، خاصة وأن أحد قادة الحلف قال: إن الحاجة للقدرات الأمريكيَّة قائمة بصرف النظر عن الأوضاع الجوية بسماء ليبيا. فلدى الولاياتالمتحدة أنواع معينة من الطائرات، مثل A-10s وAC-130s ، القادرة على التحليق على ارتفاعات منخفضة وبسرعات متدنية، مما يضمن إصابة الأهداف على الأرض بكل دقة وفي جميع الظروف الجويَّة. كما أن انسحاب الولاياتالمتحدة سيترك قوات التحالف ب 143 طائرة، بينهم 17 طائرة بريطانية، و33 فرنسيَّة، وتأتي الخطوة وسط دلائل على وجود خلافات حادة حول التكتيكات في الائتلاف، رغم أن فرنسا تواصل مساعيها للتصعيد. إن الضربات المطلوب توجيهها لإصابة أهداف صغيرة مثل الآليات العسكرية، دون إلحاق الضرر بالمدنيين، أمر يصعب على المقاتلات والقاذفات الأوروبية القيام به، حتى في ظروف جوية مثالية، ولا تجيده إلا المقاتلات الأمريكية. هذا الارتباك في موقف حلف شمال الأطلسي الذي أدى إلى ضعف الضربات الموجَّهَة إلى قوات العقيد المجرم، جعل صحيفة "الجارديان" البريطانيَّة تقول إن التحالف الدولي بشأن ليبيا ينهار مع بدء الولاياتالمتحدة سحب قواتها المشاركة في منطقة حظر الطيران، الأمر الذي يدفع الصراع بين الثوار وكتائب العقيد المجرم إلى طريق مسدود وإلى حالة من الجمود. الخبراء يؤكدون أن الحلّ العسكري للأزمة الليبيَّة، يمكن تحقيقه على نحو سهل على الأرجح، إذ من شأن تكثيف الضربات الجوية والمعارك أن تدمِّر القوات الموالية للعقيد المجرم وأن تطيح به في غضون فترة قصيرة نسبيًا. غير أن الواقع يؤكد أن القوات الغربية لا تحبذ هذا الخيار، ويقول الخبراء الغربيون إن هذا السيناريو ينسف التوافق الدولي حول العمليَّة، ذلك أن التوصل إلى سيناريو يضمن رحيل الطاغية شيء، وتحقّق هذا الرحيل في ظروف لا تضر المستقبل، أو تضر بأقل قدر ممكن، شيء آخر، ويضرب الغربيون مثلًا لذلك بأنه تمت الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق عام 2003م في ظرف أسبوعين، غير أن الاستقرار في العراق حتى الآن لم يتحققْ بعد، وهذا ما يجعل المشهد الليبي محفوفًا بالمخاطر، خاصة أن ذاكرة الولاياتالمتحدة لا تزال منهمكةً في الشأن العراقي. ويرى الخبراء الغربيون أيضًا أن أهم شيء بالنسبة لليبيا والمنطقة بصفة عامة حاليًا هو تجنب تحقيق القراءة القائلة بحرب غربية ضد بلد عربي، والحفاظ على الائتلاف الدولي الحالي قويًا ومتماسكًا، وذلك من خلال ضمان ألا تقوم البلدان التي كانت تؤيِّد العمليَّة بتغيير رأيها، أو استمرار البلدان الرافضة لها في عدم معارضتها. يفصح بعض الخبراء الغربيين عن نوايا أكثر وضوحًا بقولهم إنه قد يكون من الحكمة والحصافة تعليق العملية مستقبلًا، لا وقفها؛ على أن يتم استئنافها إذا ما رغب العقيد المجرم في مهاجمة المدنيين من جديد، فمن شأن تقييده وتكبيله بطريقة جماعية أن يسمح بالإطاحة به من خلال تحلل داخلي وعندها سيشكل عبئًا أخفّ على مستقبل ليبيا. ومن غير الواضح أن قرار تسليح الثوار الذي اتخذته بعض الدول الغربيَّة قد بدأ يأخذ طريقة نحو التنفيذ، فالجدل ما زال مثارًا في الولاياتالمتحدة حول تسليح الثوار، ووزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس يرى أنه ينبغي أن تكون دول أخرى هي من يقدم أي تدريب ومساعدة لثوار ليبيا، وهو يرى أن هناك دولًا عديدة يمكن أن تفعل ذلك، وهذه ليست قدرة فريدة من نوعها تختص بها الولاياتالمتحدة. ويرى غيتس أن إزاحة حاكم ليبيا من المرجح أن تحصل مع الوقت من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية وعلى يد شعبه, غير أن هذه العملية التي يقودها حلف شمال الأطلسي بإمكانها أن تؤدي إلى تراجع القدرة العسكرية له إلى درجة يجبر هو ومن حوله إلى مواجهة مجموعة مختلفة جدًا من الخيارات والتصرفات في المستقبل. وقضيَّة تسليح الثوار الليبيين ليست قضية حساسة في الولاياتالمتحدة فقط، بل لها نفس الحساسية في أوروبا أيضًا، فوزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني يرى أن تسليح الثوار الليبيين "إجراء متطرف"، لكن روما ستقبل به إذا كان "الخيار الوحيد" لحماية المدنيين، أي أن الأمر مازال غير محسوم حتى الآن. الغربيون المترددون في تسليح الثوار الليبيين يرون أن قرار تسليح المعارضة الليبية يعود إلى مجلس الأمن المؤلف من 15 عضوًا، أما من يؤيد تسليح الثورة فيرى أن قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و1973 يتضمنان فرض حظر أسلحة على ليبيا، والقرار المتعلق بفرض حظر جوي يتضمن فقرة عن اتخاذ "كل الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين"، والتي يمكن تفسيرها على أنها تعني تسليح الثوار. ولعلَّ موقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في رفضه دعم فكرة تسليح ثوار ليبيا, معتبرًا أن ذلك سيخلق وضعًا مختلفًا في ليبيا, وسيخلق بيئة ملائمة لما سماه الإرهاب، هذا الموقف يمكن أن يأخذه غيره مما يقلل من فرص الثورة الليبية في الحصول على السلاح كحق شرعي لمنازلة حاكم ديكتاتور يواجه شعبه بالآلة العسكرية وكأنه يواجه أكبر الجيوش النظامية تسليحًا. ورغم هذه المواقف غير المواتية التي تواجه الثوار الليبيين، فنحن على ثقة أنهم سيحصلون على السلاح إن آجلًا أو عاجلًا، لكن الموقف الأساسي يكمن في مدى صمودهم وفي تنظيم صفوفهم ونفسهم الطويل وصبرهم على استكمال طريق الحرية الصعب الذي بدءوه. ولعلَّ قيام المجلس الوطني الانتقالي بتصدير أول شحنة من النفط من المناطق التي يسيطر عليها شرقي البلاد، سيعزِّز إمكانيات الثورة الماديَّة ويمكنها من شراء الأسلحة التي تحتاجها، فقيمة هذه الشحنة بالأسعار الحالية نحو 120 مليون دولار، ستقوم قطر بتسويقها بعد إعلانها اعترافها بالمجلس ممثلًا شرعيًّا وحيدًا للشعب الليبي، كما سيتمكن المجلس باستخدام عائدات النفط هذه من تسديد الرواتب الحكومية وتعزيز صورته كحكومة قائمة بذاتها. وإذا كان الثوار الليبيون يألمون فإن قوات الطاغية تألم أكثر منهم، وجاء إيفاد مبعوثهم إلى أوروبا لاختبار مدى تقبل الحكومات الغربيَّة لطرح أحد أبناء الطاغية كخلف لوالده في إطار مقترح لإيجاد حلّ للأزمة، جاءت هذه الخطوة لتعبر عما وصل إليه موقفهم من ضعف، فهذه أول مرَّة يتمُّ فيها تقديم تنازلات للثوار، ورغم أنها تنازلات غير مقبولة إلا أنها تؤكِّد أن الضعف والتصدع بدأ يحدث. ولم يكن هذا هو المؤشر الوحيد على تداعى وضعف موقف حاكم ليبيا وقواته، فالإعلام الغربي بدأ ينقل صورًا للمواطنين الليبيين في الأزقَّة الضيقة المتشابكة بسوق طرابلس القديم يجاهرون بتوقعاتهم بالسقوط الوشيك للنظام، ويؤكدون أن صبرهم نفد في مدينة تعاني من نقص الوقود وتشهد طوابير طويلة للحصول على السلع الأساسية، ويرَوْن أن الثوار سيأتون من الشرق إلى طرابلس ربما بعد أسبوعين. وتنقل وسائل الإعلام الغربية أيضًا عن سكان طرابلس قولهم: إن أعمال الشغب تندلع خارج محطات البنزين حيث ينتظر السائقون المحبطون في طوابير من مئات السيارات محاولين الحصول على كميَّة من الوقود الذي أصبح نادرًا في البلاد. وكلُّ هذه مبشِّرات على قرب خروج أهل طرابلس على الطاغية وانضمامهم للثورة وإزاحتهم للطاغية البائس.