هل تمثل المصالحة الوطنية شرطا لنجاح أي مرشح رئاسي سواء كان السيسي أو غيره ؟ نعم ، هل الفشل في تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة يعني فشل أي مرشح رئاسي حتى لو وصل للكرسي ؟ نعم ، هل يفكر المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي في التصالح مع أنصار مرسي وخاصة جماعة الإخوان المسلمين ، نعم ، وهل هناك جهد عملي حقيقي بذله في هذا الاتجاه ؟ نعم ، وهل يفتح أنصار مرسي وخاصة الإخوان الباب أمام هذه المصالحة ؟ نعم ، وهل جرت تفاهمات بأي سبيل في هذا الخصوص ؟ نعم ، وهل يمكن أن ينجح السيسي في إدارة هذا الملف وتحقيق إنجاز نوعي فيه ؟ لا ، وهل يستطيع الإخوان أن يصلوا إلى نقاط التقاء مع العسكريين في هذا الملف ؟ لا ، هذا هو ملخص ما يجري الآن خلف الكواليس في ملف الوساطات وجهود التصالح الوطني الشامل بين السيسي وأنصار مرسي . لم يعد سرا كبيرا الآن أن هناك جهودا تبذل بين أكثر من طرف لمحاولة الوصول إلى تفاهمات توقف نزيف الدم ونزيف الاقتصاد ونزيف الانقسام الوطني ونزيف الحريات بعد أن فتحت السجون والمعتقلات أفواهها على اتساعها لابتلاع عشرات الآلاف من المصريين بدون أي أفق ولا معنى ، ولم يعد سرا كبيرا أن هناك رسائل ذهبت ورسائل جاءت من هنا وهناك ، بين أطراف الأزمة الرئيسيين ووسطاء الخير ، وأن هناك اقتناعا متزايدا بين الأطراف بأن طريق الحوار والوصول إلى مصالحة أو تفاهمات شاملة هو السبيل الوحيد لإنقاذ مستقبل كل الأطراف ، الإخوان والعسكر ، فالإخوان تعاني من نزيف تاريخي غير مسبوق في الاعتقالات والمحاكمات ومصادرات الممتلكات والأموال والملاحقات في الداخل والخارج والتدمير الوجودي الشامل للتنظيم ، والعسكر يعانون من نزيف خطير في مفاصل الدولة الرئيسية بما يهدد مستقبلها ووحدتها الوطنية بصورة غير مسبوقة في تاريخها الحديث كله ، من اقتصاد منهار ومستنزف ولا يملك أي مقومات حالية للإنقاذ ويعيش رهنا لمساعدات قلة من الدول الخليجية ، ونزيف سياسي يتمثل في تمزق وطني شامل ، الكل ضد الكل ، فالإسلاميون ضد العسكر والعسكر ضد الإسلاميين والقوى المدنية الرئيسية من يسار ويمين ضد الاثنين ، ولاعبون محترفون في الارتزاق والتزلف يلعبون هنا وهناك ، فضلا عن عودة الروح لتنظيمات العنف والإرهاب التي تضرب كل فترة ضربات موجعة وخطيرة أمنيا واقتصاديا ، وهو تمزق عنيف ومتصاعد بسرعة شديدة وعصبية أشد ، ونزيف قانوني يعرض مصر لتشوه غير مسبوق يهدر سمعة قضائها بالكامل ومؤسستها الأمنية في العالم كله من أحكام قضائية أسطورية ومروعة واعتقالات بالجملة شملت إعلاميين وصحفيين محليين ودوليين وانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان وسط معركة لا تتيح للسلطة التقاط الأنفاس لتصحيح أي مسار فيزداد تورطها أكثر مع تنامي الصدامات ، إضافة إلى النزيف الوطني العام في الانقسام المجتمعي الواضح على خلفية إطاحة الرئيس المنتخب محمد مرسي وما أعقبه من حملات ، جعلت القوى الشعبية التي حققت في الاستحقاقات الانتخابية الماضية كلها قرابة 70% في مواجهة وجودية مع القوى المؤيدة للعسكر ، فانتهى الأمر إلى شقاق عميق تعرفه كل حارة وكل شارع وكل مدينة وكل قرية وحتى كل أسرة وكل بيت ، وهو ما لم يحدث في مصر من قبل أبدا بهذه الصورة . يدرك الطرفان إذن أنهما أمام طريق مسدود ، وهناك مؤشرات على أن هذا الإدراك يتزايد مع الوقت ومع استنزاف كل طرف لطاقاته واتضاح كآبة المشهد في المستقبل ، ومع ذلك ، من الصعب أن تحقق جهود المصالحة الوطنية أي نجاح في المرحلة المقبلة ، حتى وإن أخلص أطرافها في النوايا ، لماذا ؟ لأن كل طرف أوغل في خصومته وعمقها فكريا وأخلاقيا بصورة لا تسمح له بالتراجع في المدى القصير ، فكلاهما شيطن الآخر إلى أقصى مدى ، وهو ما يجعل المصالحة في حاجة إلى جهد أسطوري لمحو هذه الصورة الشيطانية عن الطرف الآخر والتخفيف منها ، وهو مستحيل عمليا في اللحظة الحالية ، فالعسكر الذين وصفوا الإخوان بالجماعة الإرهابية وسوقوا تلك النظرية في العالم الخارجي واتهموا الإخوان بالتورط في الدم والقتل والإرهاب والتحالف مع القاعدة وغيرها من التنظيمات الدموية وتخريب الدولة والتآمر مع أعدائها وتهديد الأمن القومي للبلاد ، وحشدوا رأيا عاما قويا وواسعا ومتحمسا في الداخل وراء هذه الوجهة ، لا يمكنهم التراجع عن هذه الصورة أو تبرير محوها بسهولة ، وقد يعرضهم ذلك إلى الدخول في عداءات بديلة مع الأنصار السابقين في الداخل والخارج ، وأيضا على الجانب الآخر ، فإن الإخوان الذين وصفوا إطاحة مرسي بالانقلاب الدموي واتهموا العسكر بالتورط في دم الآلاف والتآمر على الرئيس المنتخب وعلى الديمقراطية ورفعوا قضايا في الخارج وحشدوا الرأي العام المؤيد لهم في الداخل والخارج لهدف واحد واضح ، وهو إسقاط الانقلاب بمعنى نزع السلطة من العسكر وعودة المؤسسات المنتخبة والغاء كل ما تأسس على الانقلاب ، هؤلاء لا يمكنهم أن يقنعوا أنصارهم في الداخل والخارج بالتراجع عن ذلك كله بسهولة ، بل مستحيل ذلك من الناحية العملية وإلا تعرضوا لأزمات هيكلية قد يكون دمارها أخطر عليهم من تكلفة الاستمرار في المواجهة . أيضا ، يضاف لما سبق ، أن هناك فقدان ثقة كاملا بين الطرفين ، فالعسكر يعتبرون أن الإخوان مراوغون ولا يمكن الثقة في أي اتفاق معهم ، ويسوقون تجارب سابقة في هذا المعنى ، والإخوان يعتبرون أن العسكر غير جادين وأنهم يسربون هذه الأخبار لإضعاف روح الاحتجاجات وتفكيكها معنويا ، وأن الحديث عن مصالحة هو جزء من الحرب المعنوية ، وقد يكون كلام الطرفين صحيحا بدرجة ما ، ولكن في المحصلة ، فإن حجم المعوقات التي توضع أمام أي مسار للمصالحة ، سواء بيد أطرافها أنفسهم أو بالظروف التي تشكلت من الصراع خارج إرادتهم ، كلها تعطي انطباعا أن "الليلة" ستطول ، وأن مصر مقبلة على سنوات صعبة وقلقة وخطيرة سيعاني فيها الجميع وسيدفع ثمنها الجميع حتى المواطن العادي ، إلا أن يتغمدنا الله برحمة من عنده "لا ممسك لها" ، أبعد من حساباتنا وأقوى من معادلات الأسباب التي قدمناها .