المؤكد أن الإخوان وأنصارهم سيقولون بمجرد قراءة عنوان المقال أنني أعيش في عالم آخر من الأوهام. لا مانع، فالعقول المتحجرة لن تصير مرنة ولو وضعتها في مذيبات كيميائية.
نعم، تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان - وهو جهة رسمية تتمتع بالاستقلالية نظريا - الذي تم إعلانه يوم الاثنين الماضي جاء لصالح الإخوان والمعتصمين، أو هم الرابح الأكبر من مضمون ونتائج التقرير.
ابتداء ليس هذا التقرير عظيما كما وصفه عدد من أعضاء المجلس، وليس وثيقة جامعة مانعة منزهة شفافة محايدة مجردة، لكنه عمل بشري في ظروف شديدة التعقيد وخلاصته أنه جهد معقول في إطار الظروف والمعلومات التي أُتيحت لفريق العمل.
والغريب أن الجانبين الأساسيين في أزمة الفض وماخلفته من دماء غزيرة -وهُما الإخوان وأجهزة الدولة- لم يتعاونا مع صناع التقرير. "تحالف الشرعية" رفض التعامل بالمطلق. وزارة الداخلية تعاملت شكليا وقامت بالالتفاف بتقديم معلومات غير أساسية ليس لها علاقة كبيرة بصلب التقرير. وزارة الصحة لم تتعاون، وكذلك النيابة العامة. الطب الشرعي هو من تعاون بشكل جيد. هذه طبعا شكاوى لجنة إعداد التقرير.
حتى ندرك كيف استفاد الإخوان وحلفاؤهم من التقرير نعود إلى يوم الفض حيث كان الاتجاه العام في أروقة السلطة وبيانات القوى المتحالفة معها والإعلام أن الدولة فرضت سلطتها وسيادتها وأنها نفذت القانون واستجابت لإرادة سكان المنطقة والمصريين وأزالت بؤرة احتلالية استيطانية، وعن الدم الذي سال كان الخطاب العام لا يتحدث عن أرقام الضحايا حيث يتجاهلها أو يقلل منها ويدعي أن المعتصمين هم الجناة والقتلة والمجرمون والمعتدون، وهم من قتلوا رجال الشرطة لأن الاعتصام كان مسلحا وبالتالي هم يستحقون ما جرى لهم بل قيل إنهم قتلوا أنفسهم بأنفسهم، ولن استرسل كثيرا في الشرح لما قيل لأنه معروف ويكفي سطر واحد في بيان جبهة الإنقاذ في هذا اليوم الدموي يقول "إن مصر رفعت رأسها عاليا" ليؤكد ما نرمي إليه.
لا أدري حتى اليوم كيف ترفع مصر رأسها عاليا ودماء المئات من أبنائها كانت تسيل حتى لو كانوا معارضين لسلطة الحكم، الدم لم ولن يكون حلا، وأكثر ما يؤلمني هو دم المواطنين وعلى رأسهم الجيش والشرطة.
ما حصل قد حصل، وهم انتقلوا إلى رحاب ربهم، لكن المحاسبة على الدم لابد أن تتم حتى يُقام ميزان العدل وحتى لا يصل الدم إلى هذه الدرجة من الاسترخاص، وفي حدود ما هو معروف فإنه لأول مرة في تاريخ الاحتجاجات المصرية يُراق كل هذا الدم في منطقة صغيرة -إشارة مرور كما قيل- في ساعات محدودة.
عدد الضحايا 632 مصريا كما قال التقرير، بينهم 8 من رجال الشرطة.
لكن تحالف الشرعية يقول إنه وثق مقتل 1282 قتيلا في هذا اليوم، والسؤال: لماذا لم يتعاون التحالف مع لجنة التقصي ويقدم إليها الوثائق التي لديه حول القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين ليقيم الحجة على مجلس حقوق الإنسان ولا يخرج يولول ويتهم التقرير بأنه مزيف؟!.
شرحنا أن الإعلام والنخبة والسلطة - الببلاوي مثلا اعترف بالوحشية وبررها في حوار مع إعلامية أمريكية - حملوا المعتصمين المسؤولية وحدهم عما جرى في هذا الفض الدموي وتم الترويج على نطاق واسع لهذا المنطق وبالفعل اقتنعت قطاعات شعبية واسعة بخطاب السلطة والإعلام والنخبة.
طيب .. عندما يأتي يوم 17 مارس 2014 ويخلص المجلس القومي لحقوق الإنسان - وهو جهة رسمية وأعضاؤه هم من حلفاء السلطة وليس بينهم أي من معارضيها من الإخوان وأنصارهم - في التقرير إلى أن هناك جانبا آخر في الفض وهو وزارة الداخلية ويوجه اتهامات لها واضحة ومحددة ومباشرة وأبرزها:
أنها لم تمنح وقتا كافيا للمعتصمين لمغادرة الميدان "20 دقيقة فقط " .
الممر الآمن الذي حددته للخارجين من الاعتصام لم يكن آمنا.
لم يكن هناك تناسب بين تسليحها وبين تسليح المسلحين الذي قال التقرير إنهم كانوا متواجدين في الاعتصام ويتحركون بين الكتلة الغالبة في الاعتصام وهم كانوا سلميين.
لم يكن هناك تناسب بين كثافة إطلاق النيران بين الداخلية وبين مسلحي الاعتصام.
كان هناك مدنيون يعاونون الداخلية في الفض وكانت هناك لجان من سكان المنطقة تقوم بدور الحراسة وتقبض على الفارين وتقدمهم للشرطة وهذا كله لم يكن جائزا.
والنقطة المفصلية ذات الدلالة هي أنه عندما يقول التقرير أن هناك 624 قتيلا بين المعتصمين في بؤرة الاعتصام وليس خارجه و8 قتلى من رجال الشرطة فإن هذا يؤكد منطقية التقرير بعدم التناسب بين التسليح وكثافة إطلاق النيران بين الطرفين.
ثم الجيد أيضا هي توصيات التقرير وكلها موفقة وأبرزها المطالبة بالتحقيق القضائي فيما حصل في هذا اليوم ومحاسبة كل من تورط في إسالة الدماء وهذا ينسحب على الطرفين المعتصمين والشرطة وبالفعل طلب الرئيس منصور بالتحقيق القضائي وهذا جيد لإنصاف الدم وإنقاذ حقوق الإنسان التي تتدهور ومحاولة علاج قضية رابعة وتحسين صورة مصر خارجيا وتأكيد سيادة القانون وحتى تأخذ العدالة مجراها.
والتوصية الأخرى المهمة وهي ضرورة تدريب قوات الشرطة على فض الاعتصامات والتجمعات وفق المعايير الدولية في هذا الشأن، أليس ذلك اعترافا صريحا من المجلس الحقوقي الرسمي بأن الشرطة غير مدربة على الفض وأن جانبا كبيرا من الدماء التي سالت بسبب إتباع الأساليب القديمة التي لا تقيم لحياة البشر وزنا.
ماذا تريدون أكثر من ذلك في وقت كنتم أنتم تُتهمون بأنكم الجناة الوحيدون، الآن ظهر طرف آخر جانٍ وتم تحميله أخطاء كبرى وقاتلة؟!.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.