وَصلَت رياح التغيير الّتي هبت على المنطقة العربية إلى الأردن، وخرج الآلاف من الأردنيين إلى الشارع مطالبين بالإصلاحات والحقوق السياسية، وبمحاربة الفساد وبتحقيق المساواة والعدالة بين الأردنيين. وكان من الطبيعي أن نشاهد الاحتجاجات في العاصمة الأردنية عمان، وهي المدينة التي ظلت حية ومشغولة بالهم السياسي عبر تاريخها، بحكم قربها من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي وتطوراته، وبحكم أنّ الشباب الأردني والفلسطيني معروف عنهم الوعي السياسي العالي. وكانت الملكيَّة الأردنيَّة معروفة بمواقفها الهادئة وغير المتشنجة تجاه المطالب الشعبية وتجاه المعارضة بشكلٍ عام، ويكفي أن نقارن بين موقف النظام المصري البائد من حركة معارضة مثل "الإخوان المسلمين"، وموقف القصر الملكي الأردني في علاقته بنفس الجماعة، فالفارق كبير جدًا بين الموقفين، الأول اعتمد القمع والتنكيل والملاحقة والمصادرة والسجن والمحاكمات العسكرية والحرمان من الحقوق السياسية؛ كسبيل وحيد للتعامل مع الجماعة، أما في الحالة الثانية فقد سمحت الملكية الأردنية للجماعة بالعمل العلني وبالحرية النسبية. لم يحظ الإخوان المسلمون في ظل الملكية الأردنية بالحرية الكاملة، ولم يتمتعوا بالحقوق موفورة، وإنما كان هناك نوع من المواءمة، والحبل الذي يتم شده حينًا وإرخاؤه حينًا آخر، وما جرى مع الإخوان جرى مع غيرهم من تيارات وقوى المعارضة. الديمقراطيَّة الأردنيَّة ديمقراطيَّة منقوصة، والشكل فيها يغلب على المضمون في أغلب المشهد السياسي، وخيوط اللعبة السياسية بالكامل في القصر الملكي، والدستور الأردني الذي تم وضعه عام 1952م هو دستور جيد في الأساس، ولكن كما هو الحال في معظم البلاد العربية فإنّ أهل الحكم يعمدون تدريجيًا على الحيف والاعتداء على حقوق المواطنين المقررة في الدستور، وتمكين السلطة التنفيذية، وتركيز السلطة في يد الحكومات، وتكون النتيجة هي تغوّل الأجهزة التنفيذية، وتمدد أذرعتها الأمنيّة التي تتحوَّل إلى أن تصبح الحاكم الحقيقي في البلاد. وربما هذا هو ما حدث مؤخرًا في الأردن، فالشباب الأردني نزل إلى الشارع في مسيرات احتجاج سلميّة، ليست جديدة على الشباب الأردني الذي اعتاد على هذه الروح السلميّة، يُطالب بحقوقه السياسية، ويطالب بأن تتحول الملكية الأردنية إلى ملكية دستورية، لا يكون للملك فيها سوى القليل من المسئوليات والمهام، في حين تزيد بشكل كبير مسئوليات ومهام الحكومة التي يشكلها الحزب أو تحالف الأحزاب الفائزة في انتخابات برلمانية شفافة ونزيهة، وتعكس إرادة الشعب وخياراته، لكن وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، التي تضخم دورها في ظل ضعف وتواري الأجهزة السياسية، أبت إلا أنّ تواجه المتظاهرين السلميين بالقسوة والعنف، وشهد ميدان جمال عبد الناصر مواجهات تنم عن ضيق أفق وقسوة واستهتار أجهزة الأمن، مما أدّى إلى وفاة أحد المتظاهرين وجرح العشرات، وقامت قوات الدرك بإنهاء الاعتصام وإخلاء الميدان بالقوة، في مشهد عكس الغطرسة الأمنيّة والحكومية، التي ظنت أن في ذلك إظهارًا ل"العين الحمراء" للمتظاهرين، لعلهم يخافون ويرتدعون، وهو تفكير ساذج لأن رد الفعل سيكون أكبر وأعنف فيما بعد. وزارة الداخلية الأردنية وأجهزة الدولة استحضرت المشهد العربي المتخلف والمحفوظ والبدائي في جلب حافلات من محافظة معان جنوبي البلاد؛ لإظهار الولاء للملك وللحكومة وتحدي المطالبين بالإصلاح، ولإخافة مسيرات الحراك السياسي والمعتصمين الذين يطالبون بالتغيير. ولا يبدو أنّ هناك نظامًا عربيًا يتعلم من خطايا الأنظمة الّتي تتساقط الآن في المنطقة كأوراق الخريف، ولا يبدو أنّ هناك مسئولاً سياسيًا واحدًا يتعلم الدرس، ويعي أنّ حركة الشعب متى ووجهت بهذه القسوة التي تؤدي إلى إراقة الدماء، وتراكم البغضاء والمشاعر السلبية في نفوس المواطنين، فإنها تكون هي البوابة الكبيرة التي يخرج من خلالها أي نظام خاسرًا، والتي يتعاظم من خلالها المد الشعبي حتى يصل حتمًا إلى مداه في إزاحة الاستبداد، وإقامة مجتمع التعددية والمساواة والحريات والعدالة. لم يتعلم الأمن الأردني من درس ميدان التحرير في قلب القاهرة، لم يتعلم الأمن الأردني أن ما فعله نظام مبارك البائد بوضع القناصة أعلى البنايات وبإطلاق البلطجية على المتظاهرين كان هو أول معول ضرب به النظام نفسه، وساعد المحتجين دون أن يدري. ولذلك فقد كان من المستغرب أن يضع الأمن الأردني عناصر أعلى البنايات لضرب المحتجين بالحجارة، الأمر الذي استهجنه ورفضه الأمير حسن نفسه. كنا نتعشم أن نرى معالجة مختلفة للتعامل مع الاحتجاجات في الأردن، خاصة أنّ هذه الاحتجاجات جاءت بعد أن اشتعلت الثورات العربية، مما يعني أن الدروس قد أخذت وأن أخطاء المعالجات الحكومية والأمنيّة قد انكشفت، لكننا للأسف لم نجد شيئًا من ذلك، فبعد المواجهات العنيفة التي وقعت بين المعتصمين المطالبين بالإصلاح وبين المتظاهرين الموالين للحكومة، ازدادت أزمة الثقة بين الحكومة والمعارضة الإسلامية، التي اتهمها رئيس الوزراء معروف البخيت بتلقي تعليمات من مصر وسوريا. فالعامل الخارجي جاهز دائمًا لكي يتم التلويح به، والتخويف به في نفس الوقت، أما الشجاعة الأدبية والاعتراف بالأخطاء فغير موجودة. رئيس الوزراء لا يرى في تقليص الحقوق السياسية للمواطنين والتضييق عليهم دافعًا لهم للاحتجاج، ولا يرى في الانتخابات الّتي لا تعكس إرادة الشعب الأردني محركًا للناس للتظاهر، ولا يرى في انتشار الفساد وفي نمو أجوائه مما يظلم قطاعات غير قليلة من الشعب الأردني، ما يدعو الناس للرفض والاعتراض، هو لا ينتقد نفسه ولا حكومته ولا أجهزته، والأسهل له أن يلقي بالمسئولية على الآخرين. والمشكلة ليست مشكلة رئيس الوزراء فقط، فوزير الداخلية الحالي ومرءوسوه يفعلون نفس الشيء ويعتبرون أنّه ليس في الإمكان أفضل مما كان، فمن حقهم هم أن ينحرفوا بالسلطة ويقتلوا الناس، لكن لا يحق للناس الاعتراض أو الرفض! موقف مجلس النواب الأردني (البرلمان) لم يكن أفضل من غيره من سلطات الدولة، فالمجلس يرفض مطالب الإصلاح ويرفض أية إصلاحات دستورية من شأنها تحديد صلاحيات الملك، ويعتبرها لا تعبر عن مكنون المجتمع الأردني، ويعتبر أنّ هدفها هو تفتيت الدولة الأردنيَّة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ليصف هذه المطالب بالابتزاز السياسي الّذي تمارسه بعض القوى السياسية في البلاد. وهذا من أعجب العجاب، فالمفترض أنّ المجلس النيابي المنتخب، والذي هو الأقرب تعبيرًا عن الشعب، ينحاز إلى المطالب الشعبية في الإصلاح، ولو كان المجلس معبرًا بحق عن إرادة الشعب لأدرك حجم العقبات الّتي تضعها السلطة التنفيذية والقصر الملكي أمامه، والتي تحد من سلطاته التشريعيَّة التي بإمكانها مواجهة التضخُّم التنفيذي والتغول الأمني والسيطرة على القضاء.. الخ، لكن أنّ يقول المجلس النيابي هذا الكلام فهو دليل على أنّه جزء من المشكلة، وأن ما يهمه هو إرضاء الملك والحكومة ولا يهمه أن تكون هناك حياة سياسية حقيقية في البلاد تؤدي إلى انتشار الحريات العامة، وتؤدي إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعيَّة وتكافؤ الفرص، وكلام المجلس النيابي يشكك في طريقة وصول أعضائه إلى مقاعدهم من الأساس. من العجيب أنّ يقابل الملك المظاهرات والاحتجاجات بالدعوة إلى ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، والابتعاد عن كل تصرف أو سلوك من شأنه المساس بهذه الوحدة، وما نعرفه أن خروج الناس للتظاهر السلمي والمطالبة بحقوقهم لا يعكر الوحدة الوطنيَّة، وإنما يسيء إلى هذه الوحدة التصدي للمظاهرات السلميَّة بالعنف الذي رأيناه وإسالة الدماء والحشد المضاد. الجماهير الأردنيَّة التي خرجت في المظاهرات خرجت بعفوية، وبرغبة في التغيير والإصلاح، وليس هناك من يدفعها إلى ذلك (اللهم إلا الوهم التقليدي المسيطر على الحكومات المستبدة والفاشلة)، أما الحشد المضاد فهو حشد ليس عفويًا، وإنما وراءه الحكومة والقصر الملكي، لكي يظهر النظام السياسي بمظهر الحكم الذي يحظى بتأييد غالبية قطاعات وفئات الشعب، وأنّ المتظاهرين قلة لا تعبر عن الأغلبية، ومن هنا تم حشد ودفع العشائر الأردنية لتنظيم فعاليات تمثلت في إصدار البيانات وعقد الاجتماعات للتأكيد على الولاء للملك، فيما يشبه الحملة المنظمة ضد شخصيات عشائرية وجهت انتقادات غير مسبوقة للعائلة المالكة، وخاصة للملكة رانيا.. في وقت أكّد العاهل الأردني، أنّ الفساد آفة يجب التصدي لها بكل قوة عبر ضمان تطبيق القانون على جميع من يثبت تورطه فيه. وإذا كان الملك قد دعا حكومته إلى إطلاق حوار وطني شامل حول جميع القوانين المنظمة للعمل السياسي والمدني، خصوصًا قانون الانتخاب، والتوافق عليه عبر الآلية الّتي نص عليها كتاب التكليف، فإنّ المأمول أن يكون هذا الحوار حوارًا حقيقيًّا؛ يتم الاستماع فيه إلى مطالب كل القوى الأردنية السياسية والشعبية والحصر الدقيق لمطالبها، ثم العمل على تنفيذ هذه المطالب. أما أنّ يتحول الحوار إلى مجرد جلسات للتنفيس وتضييع الوقت والالتفاف على المطالب الحقيقية للناس، فإنّ الأمر ساعتها سيكون خطيرًا، فالأردنيون ليسوا معزولين عن محيطهم العربي، وظروفهم وأحوالهم السياسية والمعيشية مشابهة تمامًا لظروف الشعوب العربية الأخرى، وبالتالي فالأردن غير محصن ضد الأجواء الصاخبة والأمواج العاتية التي يشهدها الواقع العربي حاليًا. إذا أراد أهل الحكم في الأردن النجاة، فعليهم المسارعة بالتجاوب مع المطالب الشعبية، وترك أساليب المعالجات الأمنيّة والالتفافات السياسية. فالشارع الأردني لا يطلب الآن سوى "الإصلاح" السياسي والاجتماعي، وإلى تحويل الملكية القائمة إلى ملكية دستورية، فإذا تمت الاستجابة لمطالب الناس وهي ممكنة، وتحفظ للوضع الملكي القائم بقاءه وهيبته، فبها ونعمت، وإلا فإنّ البديل سيكون قاسيًا، فسوف تتحول المطالب من "الإصلاح" إلى "التغيير" ثم "إسقاط النظام". نعلم أنّ إصلاح الأنظمة من الداخل، رغم أنّه سهل نظريًا، إلا إنه صعب على أرض الواقع، فالقصر الملكي الذي طالما أمسك بكل الخيوط في يديه، وأدار كل شيء وتدخل في كل كبيرة وصغيرة، من الصعب أن يسلم طوعًا بتقليص واسع لسلطاته. والأمن الذي تعود أن يكون عصا غليظة باطشة، من الصعب أن يسلم بدولة القانون التي تحول بينه وبين ممارسة شهواته القمعية. والمسئولون الذين يكنزون الملايين من الفساد، من الصعب أن يوافقوا على أن يعيشوا في مجتمع الشفافية، الذي يكتشف الفاسدين ويحاكمهم، نعلم ذلك كله، لكننا نعلم أيضًا أن هذا البديل هو الأفضل والأقل كلفة والأكثر أمنًا للجميع. المصدر: الاسلام اليوم