ثمة اختلاف حول التعريف الدقيق لكلمة "الثقافة", وسبب الاختلاف هو كثرة تناول الكلمة في مجالات عديدة, فتارة نقرأ عن ثقافة سياسية, أو اقتصادية أو فنية, وربما نسمع عن ثقافة زراعية أو تجارية,أو غير ذلك في تنوع بالغ في استعمالها.و لعل تعريفها كمصطلح تعني " أسلوب الحياة " بمعنى النظام الاجتماعي بمحتوياته من أديان وأعراف وعادات ,وقد تعتبر دور العبادة ومؤسسات التعليم والاعلام أهم وسائط المحافظة على الثقافة واستمرار توريثها من " السابق" الى " اللاحق" وتعتبر الثقافة وفقا لذلك بمثابة وعاء مشترك, لأبناء الوطن الواحد,وقد حدث تطور لكلمة ثقافة في المعاجم العربية , ففي (لسان العرب) مثلاً قوله: ثَقُفَ الرجل ثَقافةً أي صار حاذقاً فطِناً، وفيه أيضاً ثقّفه تثقيفاً أي قوَّم عِوجَه، (وكان استخدامها قاصرا على الرماح, بمعنى إصلاح إعوجاج الرمح )ثم أستعير فصار للتقويم الخُلقي، كما في قول السيدة عائشة تَصف أباها: "وأقام أوَدَه بثِقافه" – وفي القواميس الحديثة (مثل بطرس البستاني وسعيد الشرتوني ) فتقول : ثقَّف الولد تثقيفاً أي هذَّبَه وعلَّمه, ومما زاد في الخلاف حين تم استعمال كلمة الثقافة بقصد الإشارة الى: الحضارة، أو المدنية، أو التمدّن, و في كتاب الدكتور طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر), يتحدث العنوان عن الثقافة بينما ضم المحتوى تقريرا عن التربية والتعليم ولم تكن الثقافة بمعناها الفني المحدّد إلا في أول الكتاب فقط، حين ينحاز المؤلف الى القول بأن تراث مصر يتشكل من تُراث البحر المتوسط والغربي، لا من تُراث الشرق.وقد استعمل طه حسين كلمة الثقافة في الكتاب كله، مع أن الظاهر أنه كان يقصد التعليم، فمن ذلك توصيته إعطاء الطلاّب الذين يتركون المدرسة قبل إكمال الدراسة دروساً سهلة في المساء حتى يتمكّنوا من (المضي في الثقافة على مهل) ، وحين أشار إلى إنتهاء (الرقابة البريطانية) على التعليم في مصر فقال: "أصبحت اللغة العربية لغة الثقافة". وقد حاول الأديب أحمد حسن الزيَّات انقاذ كلمة الثقافة من هذا الخلاف، حين طرح على مَجمع اللغة العربية في القاهرة مقالة عنوانها: (حقّ المحدثين في الوضع اللغوي) وقدّم للجميع بعد ذلك نحو خمسين كلمة تستعمل لمعان غير قاموسية، وكانت كلمة الثقافة أحدها.وقد وافق المجمع على استعمالها كما اقترح الزيَّات على النحو التالي [الثقافة مصدر ثقف: صار حاذقاً، والمحدثون يستعملونها اسماً من التثقيف وهو التعليم والتهذيب، ومنه قول القائل لولا تثقيفك وتوفيقك لما كنت شيئاً، فهي عندهم تقابل لفظ Culture عند الإفرنج].. الواقع الثقافي في مصر منذ ثورة يوليو 1952 م حتى الآن بُذلت جهود مستمرة ودؤوبة على "تأميم" مشهد الثقافة المصرية لفريق بعينه , ويعتبر إقصاء الدين الإسلامي (تحديدا) هو المشترك الأكبر والجامع لاكتساب العضوية لهذا الفريق, وتم اشتقاق من كلمات التنوير والحداثة وصفا لهولاء المثقفين الراغبين في إقصاء الدين الإسلامي من منظومة ثقافة الوطن والأمة وهويتها, ومن كلمات الرجعية والتخلف والظلامية وصفا للإسلاميين تحديدا. وأصبح المثقف هو من يطعن أو يهزأ من القرآن والسنة وثوابت الدين بقول صريح أحيانا أو بتلميح في أحيان أخرى, وتم التعبير عن ذلك بأفلام ومسلسلات وكتب وصحف ومجلات خاصة وحكومية, وأضيف إليها الآن برامج وندوات على فضائيات (ايضا خاصة وحكومية) لتسير على الدرب نفسه, ولم يكن ثمة فارق في مسلك هؤلاء في زمن ناصر والسادات ومبارك وما بعد مبارك, فالمثقف ( في مفهوم بعض النخبة – للأسف الشديد) يمكن أن يكون شيوعيا أو علمانيا أو ليبراليا أو قوميا بل من الممكن أن يكون المثقف ملحدا أو ناكرا للسنة, لكنه من غير الممكن أن يكون المثقف متحدثا بآية أو حديث أو داعيا الى الحفاظ على نسيج الأمة ووحدتها وهويتها. والغريب جدا, أن يتفق هؤلاء المثقفون على الهجوم على دعاة الإسلام السياسي مع تجاهل تام ومتعمد لأي مسلك لدعاة المسيحية السياسية كأقباط المهجر وغيرهم ,ولعل الأحداث التي تتوالى تكشف بوضوح بالغ عن هذا المسلك (الثقافي), فحينما حدثت أحداث العمرانية طالب هؤلاء المثقفون بالهدوء والحكمة والروية والتسامح ( ولا أجد في ذلك عيبا), لكن العيب والخلل البالغ أنهم هم أنفسهم ( بأسمائهم وذواتهم ) هم من حرضوا على اتخاذ أقسى إجراءات القمع والحظر على أي مسلك إسلامي ( وإن بدا بسيطا, مثلما حدث في استعراض طلاب الأزهر) وقد نتج عن هذا التحريض محاكم عسكرية ومصادرة اموال لغير من قام به في ظلم بين وبشع.. وقد ظهر في استفتاء التعديلات الدستورية الأخيرة حشد وتوجيه من فصائل سياسية ودينية عديدة, وظهرت لافتات وتوزعت منشورات, وبرزت صفحات إعلانية كاملة وبرامج تليفزيونية ودعائية دعما للتصويت (بلا), ووجدنا اعلانات متلفزة لبعض المشاهير من الفنانين وصفحات كاملة على بعض الصحف الخاصة تدعم (لا) واصطفاف حزبي كامل مع (لا) و ترجيح مرشحو الرئاسة (عمرو موسى والبرادعي والأشعل والبسطاويسي) للخيار لا ومن ضمن هؤلاء برز دور واضح جداً للكنيسة, وفي المقابل برز أيضا دور للإسلاميين يدعم (نعم), فظهر العتب كل العتب والملام كل الملام على دعاة الإسلام دون دعاة المسيحية, وعلى الإسلاميين فقط دون أية إشارة الى التمويل الدعائي الضخم الموجه من رجال أعمال وأصحاب فضائيات وصحف خاصة لما يمكن تسميته ( فريق لا ), بل سمعنا عن اتهام صريح للإخوان بالخيانة [ كما في حديث الأستاذ حمدي قنديل على قناة ) O tv) مساء الأحد 20/3/2011 م ) مما دعا الدكتور عصام العريان لأن يطلب من المتحدثين ( بأدب جم ) تفادي عبارات الاقصاء والتخوين!]. خارطة الطريق للمثقف يبدو في مصر وغيرها (للأسف ) أن خارطة الطريق للالتحاق بركب " المثقفين" ليكون المرء مشهورا مسموع الصوت حاضرا بامتياز وتُعرض عليه المناصب وتتلهف عليه وسائل الإعلام لا يقتصر على أن يكون المرء يساريا أو قوميا أو علمانيا أو ليبراليا , لكن الشرط النافذ الانجح والأنفع أن يعادي " المثقف " كل ما هو إسلامي, وأن يتحدث عن الثورة البلشفية والفرنسية وعن العلمانية والاشتراكية والرأسمالية, وعن أفلاطون وأرسطو وديكارت, وعن البرجوازية والبوليتاريا, والبراجماتية والدوجماتية ويقتبس ما شاء من قول هذا أو ذاك,( وليس ثمة عيب أن يعرف او يتحدث المرء بذلك ) لكن الحذر كل الحذر أن ينتمي الى فصيل إسلامي,او ينحاز الى هوية الأمة وحضارتها الأصيلة, والجرم كل الجرم أن يصطحب آية يستشهد بها أو حديث, إذ يعتبر ذلك في منظور بعضهم مدعاة للاشمئزاز, وأخشى والله (دون تكفير لأحد) أن ينطبق على بعضهم قول الله تعالى [وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) الزمر]. ايجابية شعب لم أدرك أن ثمة فارقا كبيرا بين (نعم) و(لا) على التعديلات الدستورية, إذ أدركنا أن الطريقين يفضيان بنا الى دستور جديد, بوسيلتين مختلفتين, ولذلك لم أجد منطقا لكل هذا الاستقطاب الحاد,ولقد تابعت تحليلات القانونيين والسياسين والمحللين عبر الفضائيات والصحف والمواقع الاليكترونية, وشاركت في عدة ندوات محاضرا ومشاركا ومستمعا, وشعرت أن ( نعم ) هي الأنسب دون أي تقليل من وجاهة الخيار (لا), وعايشنا مع الشعب يوم الاستفتاء الذي كان يوما عظيما رائعا مبهرا, بما يقطع الطريق أمام زيف ومزاعم كل من يروج على عدم نضج هذا الشعب, ووجدنا أن هذا الشعب (في أغلبه) أذكى من كل حكامه ونخبه, وأن أغلبية الشعب التي كانت صامتة كانت تدرك بذكاء بالغ أن صناديق اقتراع الاستبداد لا يمكن أن تؤدي الى أي تغيير في المعادلة, وأن المشاركة ما كانت تعني للنظام البائد بأكثر من محاولة لتجميل وتزيين وجه قبيح وبشع.. مثقفون وشعب كتب الأستاذ فهمي هويدي ( الشروق 22/3/2011 ) تحت عنوان "الاستفتاء كشف أزمة النخبة المصرية":[إن ما نلحظه من مرارات ومشاعر غير صحيحة ( نتيجة الاستفتاء) يكاد يكون محصورا فى أوساط النخب أو الطبقة السياسية، التى لها هواجسها وحساباتها الخاصة المتأثرة إما بمواقفها الأيديولوجية أو خلفياتها التاريخية ولأن تلك النخب صاحبة الصوت العالى فى مختلف وسائل الإعلام، خصوصا الصحافة والتليفزيون، فإنها وظفت تلك المنابر فى التسويق لتلك المرارات والمشاعر غير الصحية على نحو قدم صورة مغلوطة للمجتمع، وكانت نتائج الاستفتاء نموذجا لتلك الحالة. التى ملأت فيها عناصر النخبة الأجواء بحملة واسعة النطاق لرفض التعديلات، فى حين تبين أنهم يحدثون بعضهم البعض، وأن أغلبية الرأى العام المصرى لا علاقة لها بالموقف الذى عبروا عنه].. لقد كنا" للمرة الأولى" لا نعلم مسبقا بنتيجة الاستفتاء , ولذلك حرص الناس على متابعة النتائج أولا بأول, وكنت أريد (كمتابع للشأن السياسي) إدراك أثر هذه النخبة المثقفة التي تأممت الثقافة لها (عالية الصوت وواسعة الحضور في الصحف والمجلات والفضائيات) على توجهات الشارع المصري, فأظهرت النتائج أن كثيرا من مساحة وحجم هذه النخبة المثقفة تمثل بصدق (حالة صخب كبيرة), وأنها لاتتماس مع نبض مجمل الشارع,وأنها بغرور بالغ تتقوقع حول نفسها وتتعالى على شعبها زاعمة أن الشعب لا يعي ولم ينضج بعد, ولذلك أفزعهم نتيجة الاستفتاء أنها جاءت على عكس ما يرجون, وكان ذلك في تصويت نزيه حر ديمقراطي تمت مراقبته على أوسع نطاق, فاُسقط في ايديهم, ثم أفاقوا بحثا عن تبرير ينقذ ماء وجوههم فم يجدوا إلا الاستمرار في تشويه كل ما هو إسلامي فقط دون أي شيئ أخر!! لذلك, أود أن أقول, إننا لا يجب أن نفزع حين يتكرر على اسماعنا وأعيننا مزاعم من تأممت "الثقافة " لهم , إذ ندرك أن عموم الشعب أوعى وأذكى وأنضج منهم جميعا, كما آن لنا أن ندرك أن حالة صخبهم الإعلامية لا تعكس بالضرورة ودائما آمال الناس وتوجهاتهم, كما ندرك أن بالوطن كثير من أهل الثقافة الحقيقية الذين ينحازون بوضوح تام الى هوية الشعب وحضارته وإن بدوا أنهم (اخفض صوتا) و ( أقل حضورا) , لكنهم بلا أدنى شك ( أكثر تأثيرا) لأنهم أكثر تعبيرا عن الناس والتصاقا بأحلامهم ورغباتهم.. مصطفى كمشيش [email protected]