إنه صباح النكد والحزن عندما تفتح عينيك على خبر مقتل ستة من شباب الوطن وجنوده ، بلا ذنب ولا جريمة ، سوى الثأر السياسي الأعمى والإرهاب الغبي الذي لا يعرف هدفا سوى التنفيس عن غضب وعنف أسود ، ويزداد حزنك وإحباطك عندما تدرك بعيدا عن المزايدات أن هذا الإرهاب الأسود مرشح للاستمرار ، مع الأسف ، رغم الكلام الدعائي الرخيص الذي يطلقه بعض المسؤولين وأبواقهم الإعلامية عن الإرهاب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، والإرهاب الذي تم دحره ، ثم نفاجأ بعد كل عدة تصريحات بحادث وحشي يحصد أرواح بعض أبنائنا وشبابنا من رجال الشرطة أو القوات المسلحة ، ولو أننا استحضرنا هذا الشريط الإعلامي "المخدر" منذ حادث رفح الشهير والذي راح ضحيته ستة عشر شهيدا من شباب القوات المسلحة لوجدنا الصيغة لم تختلف من ساعتها ، كأنه تصريح "أكلاشيه" في أحد الأدراج يتم إخراجه وتلاوته عقب كل حادثة ، كما أن هذه الحادثة المؤسفة والتي تأتي بعد يوم واحد من حادث إرهابي آخر استهدف حافلة للجيش في منطقة الأميرية بالعاصمة أيضا ، وهي منطقة لا تبعد كثيرا عن نفس موقع الحادث الإرهابي الجديد واستشهد فيها أحد الضباط وأصيب آخرون ، فالحادثان المتتاليان يكشفان عن أن الهجوم الرخيص على الدكتور حازم الببلاوي واتهامه بالضعف والقبضة الأمنية المسترخية ، كان كلام "هجايص" أو جهلة لم يقرأوا شيئا من تاريخ الحركات المسلحة التي تمارس العنف على خلفية أهداف سياسية حقيقية أو مزعومة ، فالحادثتان تثبتان أن المشكلة أعمق من الببلاوي أو محلب أو من قبلهم أو بعدهم ، أبعد من إرادة أي حكومة ، وأسبق من الأمن واجراءاته ، هناك مشكلة حقيقية في مصر وينبغي التفكير في حلها أولا إذا كانا جادين لحماية الوطن من هذا الإرهاب الأسود . الانقسام الخطير الذي شهدته البلاد في أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس السابق محمد مرسي ، في أي حساب سياسي وأمني منطقي ، كان بديهيا أن يولد أعمال عنف وإرهاب من قبل بعض الشبان المنفلتين وقليلي العلم والخبرة ، وقد أشار المشير عبد الفتاح السيسي إلى توقعه لعنف وإرهاب بعد الإطاحة بمرسي في أكثر من خطاب وأشهرها الخطاب الذي طلب فيه تفويضه لمواجهة أي عنف أو إرهاب محتمل ، وفوضوه ، والإرهاب من ساعتها يتفاقم ، لأن التعامل مع الأزمة يحصرها في الإشكال الأمني ، ويمكن حلها بالمزيد من الرصاص والمعتقلات والتخفف من بعض قيود العدالة والقانون وحرب الشوارع مع المتظاهرين كل يوم وحصار الجامعات وغلق القنوات الفضائية وحل الجمعيات الأهلية وتأميم المساجد ، بينما هذا الحل المتخيل هو غذاء حقيقي يمد حركات العنف والإرهاب بالمزيد من الدعم المعنوي والروحي والسياسي ، في حين أن الذكاء السياسي والقدرة على تفكيك أزمات الوطن المختلفة بعيدا عن العناد والمكابرة هي الطريق الوحيد لتجفيف أرض الإرهاب وحرمانه من التمدد وحرمانه من أي حاضنة شعبية وتهميشه تماما بما يسهل إنهاؤه بإجراءات أمنية وقانونية بسيطة بعدها ، والذين يحاولون قياس الوضع الحالي على ما كان في الثمانينات والتسعينيات عندما واجهت الدولة تنظيم "الجماعة الإسلامية" يخطئون خطأ فادحا في الحساب السياسي ، في الثمانينات كنت تواجه تنظيما دينيا واحدا ملفاته محفوظة أمنيا واجتماعيا منذ نهاية عصر السادات وتطوراته مرصودة بدقة متناهية فكان سهلا مواجهته والوصول لنهاياتها رغم التضحيات ، وكان المجتمع الدولي في تضامن إجماعي مع النظام المصري ويدعمه بكل قوة في تلك المعركة وتشارك أجهزة استخباراته ومنظومته الأمنية في دعم الأجهزة الأمنية المصرية بكل قوة ، الوضع الآن مختلف تماما ، فلسنا أمام تنظيم ديني محدود أو معروف ، وإنما أمام شرايين جديدة وأجيال جديدة ومتنوعة الروافد ولا يعرف أولها من آخرها وحاضنة شعبية مليونية على خلفية انقسام تاريخي للمجتمع المصري وتنازع للشرعية الدستورية ، ودوليا وإقليميا الانقسام مشابه ، وهناك موقف شديد السلبية من النظام الحالي واتهامات صريحة له بالانقلاب على الشرعية الدستورية وتوريط البلاد في العنف ، لا يمكن قياس الحالة الآن على ما سبق ، واهم من يفعل ذلك ، فالصورة مختلفة كليا ، ومصر بظروفها الحالية ليست في وارد تحمل تكاليف مثل هذا النزيف الأمني والاقتصادي والاجتماعي والقانوني لعشر سنوات أخرى لا سمح الله . الدولة المصرية تدار حاليا بشكل عصبي جدا ، أبعد ما يكون عن العقلانية أو الحكمة اللازمة للعمل السياسي في أبسط درجاتها ، هناك عنف في الإجراءات وعنف في السلوك السياسي وعنف في السلوك الأمني وعنف في الإجراءات القانونية وعنف في التعاطي مع الإعلام وعنف في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية وإضرابات العمال ، العنف أصبح شعار المرحلة وشعار الدولة ، وهذه أفضل بيئة يتمدد فيها الإرهاب ، ولعل أقرب مثال على ذلك ما حدث أمس من قيام جهات مجهولة بالتشويش العمدي على برنامج "باسم يوسف" الساخر وقطع الإرسال عنه معظم الوقت في صورة فضائحية ومهينة للغاية لدولة بحجم وتاريخ مصر ، هذه عصبية زائدة جدا عن الحد ، وتكشف عن الطريقة التي تدار بها الدولة ، وتعطي الانطباع عن ارتباك شديد وغياب الخبرة السياسية لإدارة شؤون الدولة . ما حدث من اغتيال غادر للجنود الستة هو عمل إرهابي جبان ، لا بد من إدانته ، أيا كانت الخلفيات أو الدوافع ، الإرهاب لا يمكن تبريره أو التماس الأعذار له ، ويلزم ائتلاف دعم الشرعية والجماعات والأحزاب المتصلة به أن تعلن إدانتها الصريحة الواضحة لهذا العمل الجبان ، لأنه يضر بالوطن كله ، ويضر بالمسار الديمقراطي ، ويجعلنا جميعا مختطفين للعنف والتطرف والدم من كل الأطراف ، غير أن هذه الإدانات لا يمكن أن تكون ستارا لإخفاء الأخطاء الفادحة في إدارة شؤون الدولة ، والكوارث السياسية ، والجرائم التي ترتكب على يد أجهزة رسمية واستباحة القتل للمتظاهرين أو العابرين على كمائن الشرطة عند أي خلاف بسيط ، وسلخانات التعذيب التي ذاع صيتها في أقسام للشرطة ومديريات الأمن ، وصمت الدولة وأجهزتها على مثل تلك الحوادث البشعة وكأنها في بلد آخر ، استرخاص الدم وإهدار العدالة واستباحة الكرامة الإنسانية واحتقار القانون والدستور منابع تغذية طبيعية لشجرة الإرهاب .