لم تكن ظاهرة فردية ، كانت جماعية ، معظم القادة ومن ينوبون عنهم من الجالسين في المقاعد الأمامية كانوا يتثاءبون .. وامتد التثاؤب ليشمل الصف الثاني من الوزراء أو من في حكمهم .. رأيت وزيرنا الهمام أحمد أبو الغيط يتثاءب بعمق بل بانهيار .. يبدو أنه سهر طويلا ، وتعب من المحادثات والمقابلات ، فلم يتمالك نفسه في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر القمة العربية السابع عشر ، وأطلق لفمه العنان كي ينفتح على الآخر ، ثم يضع يده لينهي تثاؤبه الطويل ، وينهي وعده القديم بالثأر للسفير إيهاب الشريف الذي قتل أو اختفى في العراق ، ولم يظهر له أثر أو جثة حتى يومنا ! التثاؤب كان ظاهرة عامة في أثناء إلقاء الرئيس السوداني عمر البشير خطابه الذي عبر فيه عن أحلام الأمة وأشواقها في العلم والعمل ، والانتقال من حال إلى حال .. لم أستطع تفسيرا لهذا التثاؤب الذي يذكر بحفلات الزواج الاضطراري أو المؤتمرات الحكومية ، التي يكون الحاضرون فيها غير مقتنعين بالزواج أو الموضوع ، فيحضرون مرغمين أو مجرد تسديد خانة ، لأنهم لا يملكون تغيير الأمر الواقع ، وفي الوقت ذاته لا يستطيعون عدم الحضور أو مقاطعة الحفل أو المؤتمر . كان الرئيس البشير يتكلم كلاما جيدا لا ينقصه غير ضبط الكلمات والجمل ، كان يستطيع أن يستعين بأحد الكتاب الذين لديهم حد أدنى بمعرفة اللغة العربية وخاصة النحو ، وعلى كل حال فهذه المشكلة ليست مستعصية ، ولا تشكل صعوبة في السودان الشقيق ، كما هي لدي جريدة " المصريون " الإلكترونية " مثلا ، فالرئيس البشير إذا أمر سيجد مئات من أساتذة اللغة العربية المرموقين الذين يكفونه شر الأخطاء النحوية التي وقع فيها عند إلقاء خطابه الذي تابعه ملايين العرب من المحيط الذي كان هادرا إلى الخليج الذي كان ثائرا ! فخامة الرئيس البشير استعرض قضايا العالم العربي بدءا من فلسطين والعراق حتى مشكلات التعليم والبحث العلمي والأمن الغذائي ، وقد أعجبني حديثه عن الميزانية المخصصة للبحث العلمي عندنا نحن العرب ، والميزانية التي يخصصها الغزاة الاسرائلييون في فلسطينالمحتلة للبحث العلمي . وكنت أتمني لو توقف فخامته عند هذه النقطة وحدها ، وطلب من أهل القرار في بلادنا العربية أن يتفقوا على " البحث العلمي " مثلما يتفقون في بعض الأمور التي تخنق شعوبهم وتزيف وعيهم ، فالبحث العلمي سيزيدهم قوة في شتي المجالات ، ويعزز مكانتهم أمام الآخرين ، ولديهم ألوف من العلماء الذين يتخرجون سنويا في شتي التخصصات ، ويستفيد ببعضهم الغرب ، ويتيح لهم الفرص كي تزداد خبرتهم وتجاربهم . لاشك أن ظاهرة التثاؤب المعدية التي شاعت مثل الأنفلونزا ، جعلت كلام البشير مثل كلام بوتفليقة مثل كلام عمرو موسي مثلك كلام رجب الطيب رضوان رئيس وزراء تركيا الذي لم يترجموا كلمته للمشاهدين .. وكله كلام ، لا يستوعبه المتثائبون ، أو يطردونه من خارج آذانهم وعقولهم ، لأن " القمة العربية " بأسرها ، كانت تمثل معضلة عربية كبرى .. فالعالم الصليبي الاستعماري بقيادة الولاياتالمتحدة ، كان يسعي لإلغاء القمة أ و نقلها خارج الخرطوم في إطار معاقبة السودان وتمزيقه بسبب أنه تحدث ذات يوم عن الهوية الإسلامية وتطبيق الشريعة ، ليكون عبرة لمن تحدثه نفسه أن يتمسك بالإسلام ولو صوريا ، وقبل انعقاد القمة بيوم واحد أصدر النادي الصليبي الاستعماري المسمى مجلس الأمن الدولي قرارا بإرسال قوات دولية إلى دارفور لإحراج الحكام العرب ووضعهم في مأزق ، ثم كانت إشاعة عدم الاستقرار الأمني في السودان التي أطلقها الأميركيون الصليبيون الاستعماريون لمنع الزعماء العرب من حضور القمة ، وهو ما أثر بالفعل على بعضهم فلم يحضروا .. وكان الحديث علنيا من الأميركيين للضغط على الخرطوم من أجل دارفور وأشياء أخرى .. كان مجرد انعقاد المؤتمر القمة في الخرطوم ، مع عملية التسليم والتسلم بين الجزائر والسودان دليلا على أن الأمة تستطيع المقاومة في ظل الانهيار السياسي والضعف العسكري والتخلف الاقتصادي والفقر العلمي .. ومع انتشار ظاهرة التثاؤب في جلسة الافتتاح ، فقد كانت جماهير الأمة تتابع ما يجري ويقال . صحيح أن الناس كانوا محبطين بسبب عدم حضور الزعماء البارزين ، وعدم حضور حماس ومشاركتها ، وعدم جلوس السنيورة مع لحود في مقاعد الوفد اللبناني ، وانسحاب الوفد اليمني الذي كان يسعى لانتخاب عبد الكريم الإرياني أمينا جديدا للجامعة لعربية بدلا من عمرو موسى ، وعدم الرد القوي على مشروع الإرهابي "إيهود أولمرت " بتحديد حدود كيانه الغاصب من جانب واحد ، والإصرار على مناشدة الاسرائيليين النازيين الغزاة الجلوس للتفاوض ...الخ، ولكن الناس تقبلوا لاءات البشير ونعماته الجديدة التي ذكرتهم بلاءات الخرطوم الثلاث قبل أربعين عاما .. فقد كانت هذه اللاءات حصاد ثقافة اسمها "المقاومة " بدأت منذ غزو نابليون لمصر والشام ، واستمرت حتى تحرير الجزائر .. أما نعمات اليوم ، فهي حصاد ثقافة " الاستسلام" التي فرعنت الغزاة النازيين الاسرائيليين، وأغرت الصليبيين الاستعماريين الجدد بنا وبمصائرنا..! ولاشك أن الأجيال القادمة – ليست أجيالنا الحالية بالطبع – سيكون لها موقف يختلف عن الموقف السائد الآن ، وحين تذهب إلى مؤتمرات قمة أو سفح ، ستتعامل بجدية مع القضايا التي تشغلها دون أن تتثاءب أو تسترخي ، لأن واقع الحياة أيامئذ سيكون مختلفا ، لأنه واقع وجود ، يجب أن يدفعوا عنه بكل ما يملكون من قوة وعقل وتخطيط وإرادة وعزيمة ، ولن يتثاءب عمرو حين يتثاءب خالد ، لأن التثاؤب ساعتئذ لن يكون معديا ، أو كما قال الشاعر القديم !! [email protected]