في الأسبوع الأول من يوليو 2013 الماضي ، وعقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق محمد مرسي بدا المشير عبد الفتاح السيسي مترعا بالثقة والأمل والانتشاء والتفاؤل بالمستقبل ، كان إذا تحدث تشعر أن الدنيا فتحت ذراعيها لمصر ومستقبلها الواعد العظيم بعد أن "انزاح الكابوس" الذي صوروه للناس وقتها ، كان يزف للناس البشرى بأن مصر هي أم الدنيا وها تبقى قد الدنيا ، كان يعد الناس بالأحلام الكبيرة في حياة أفضل ونقلة هائلة : بكرة تشوفوا مصر ، كان يتحدث عن إنقاذ مصر من الانقسام والحرب الأهلية ، وبدون شك ، عاش ملايين المصريين معه في تلك الأيام مشاعر فياضة بالبشر والتفاؤل والرفاه والحرية والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والأيام الأجمل في حياة مصر ، ولكن مع الوقت بدأت هذه الروح تخفت في الواقع ، ويمر الأسبوع بعد الأسبوع من حال سيء إلى حال أسوأ فإذا بالقلق يتسرب إلى نفوس الناس ، وبدا أن هناك فقدانا للثقة بالمستقبل يتسرب إلى مشاعر حتى أشد المؤيدين للسيسي ، ثم بدأ خطاب السيسي نفسه يتغير تدريجيا ، قوة التفاؤل والأمل بدأت تضعف تدريجيا ، الثقة بالمستقبل أصبحت موضع شك ، ثم تلاشى الحديث عن الأمل والتفاؤل والبشرى ، ليحل محله خطاب مشحون بالقلق والإحباط والاقتراب من مشاعر اليأس ، وبعد أن كان الناس يسمعون عبارة "بكرة تشوفوا مصر" أصبحوا يسمعون عبارات عن "أيام صعبة" ومستقبل يحتاج إلى تضحيات ، ضحوا من أجل البلد ، الاقتصاد في أسوأ حالاته ، وفي نفس الوقت بدأت سحابات من الكآبة تظلل مصر أكثر من أي وقت مضى ، من خلال حمام الدم المستمر في مواجهات لا يبدو أن لها أفقا تنتهي عنده في المستقبل القريب ، سواء من أعمال قتل للمتظاهرين من أنصار مرسي ، أو استهداف لرجال الشرطة أو حتى الجيش ، ثم فتحت السجون والمعتقلات أبوابها الواسعة لتمتلئ بالكامل بأفواج من آلاف المعتقلين السياسيين ، ثم ظهور سلسلة من القوانين المتعجلة والخطيرة التي تضيق مساحات الحرية والتظاهر بأسوأ مما كان أيام مبارك الذي قامت عليه الثورة أساسا ، ثم تنقلب صورة المشهد ، مشهد 30 يونيو رأسا على عقب ، بعد أن أصبح بعضا من أهم رموزها وشركاء السيسي نفسه تحت وطأة البطش والتنكيل والاعتداءات الخطيرة من الجهاز الأمني ثم يتم الزج بهم في السجون لأشهر طويلة ، ثم صدور أحكام بالسجن عليهم مددا لا يمكن تصورها على خلفية التظاهر الذي كانوا يمارسونه كطقس يومي أيام المجلس العسكري الأول وأيام مرسي نفسه دون أن يتعرض أحدهم لعشر ما يتعرض له الآن ، ثم ما يراه الناس بوضوح كاف في الداخل والخارج من انقسام وطني واجتماعي لم تعرفه مصر من قبل ، وصل إلى حد الصراع بين الزوج وزوجته وبين الأم وابنها وبين الأخ وشقيقه وبين العائلة وبعضها البعض ، وهو ما أضعف تماما من تبرير إنقاذ الوطن من الانقسام الأهلي الذي وصم به عهد مرسي ، ثم بدأت المصانع والشركات والنقابات سلسلة من الإضرابات والغضب الشديد على وقع تزايد الآلام الاجتماعية وسوء الأحوال والإغداق على آلة القمع وأجهزته على حساب حاجة المجتمع للإنقاذ من تردي الحال . تشعر من تحولات الأوضاع أن المشير السيسي خسر رهانا ربما كان يضع فيه ثقته ، تشعر كأن تقديرات للأمور وتطورها قدمتها له أجهزته وخبراته قبل 3 يوليو ثبت أنها كانت خاطئة تماما ، وأن ردات الفعل على إطاحة مرسي كانت أعنف وأخطر مما كان متصورا ، وأن الوعود الخارجية بالدعم المالي لإحداث انتعاشة تؤكد الآمال الجميلة بالمستقبل وتبهج الناس وتجعلهم يلتفون حول السيسي "المنقذ" كانت أقل من أن تنقذ اقتصادا متهالكا ، ثم كان من توالي المصادمات وظهور أعمال الإرهاب أن دمرت بالكامل تقريبا مصادر جوهرية مثل السياحة ، وهربت رؤوس أموال ، وأغلقت آلاف الشركات والمصانع أبوابها واتسعت مساحة الفقر والمعاناة بين الناس بصورة غير مسبوقة ، وأصبحت البلاد في حاجة إلى معجزة للخروج من هذه الهاوية ، في زمن لم يعد زمن المعجزات المطلقة ، والمعجزات فيه تحتاج إلى منظومة سياسية واجتماعية جديدة واضح أن القيادة الحالية غير مؤهلة لها ، فتحول المشهد إلى مسار آخر لم يكن في الحسبان ، ومع خسارة الرهان المفترض وضح أن السيسي خسر تفاؤله القديم وأصبح يستشعر الخطر والخوف من المستقبل أكثر من أي وقت مضى ، وكانت بعض تصريحاته عن أسباب تأخر إعلان ترشحه صريحة في هذا الجانب ، وأصبحت كل خطاباته السياسية تدعو الناس لتوقع الأسوأ ولا تنتظروا معجزات ، وهو الأمر الذي طرح السؤال البديهي عن مغزى قيادته للدولة إذن ، ولماذا لا يفسح المجال أمام قيادات مدنية أخرى يمكن أن تقدم مشروعا حقيقيا للإصلاح السياسي والاقتصادي والأمني . مع الانتكاس الاقتصادي والسياسي والأمني والاجتماعي ، وفي غمرة البحث عن مخرج تم الدفع بمقاومة الإرهاب كمؤسس لمشروعية النظام الجديد ، وأن مصر تتعرض لخطر الإرهاب ، وبالتالي لا صوت يعلو على صوت مواجهة الإرهاب ، وهي الفرضية التي يصعب أن تتأسس عليها شرعية أي نظام جديد ، ولم تعد تلقى قبولا حتى في المجتمع الدولي ، كتعويض عن ترسيخ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والدولة المدنية والتداول السلمي للسلطة وتحقيق الرفاه والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون ، بل إن العالم أصبح مقتنعا الآن أن غياب هذه المنظومة هو السبب المباشر في ظهور الإرهاب ، كما أن النظام السياسي الذي يؤسس مشروعيته على أنه يقاوم الإرهاب ، سيبقى أسير ضغوط هذه المشروعية ، بمعنى أنه سيكون من مصلحته استمرار الإرهاب بداهة ، لأن توقفه أو ذهابه يعني سقوط المشروعية الأساسية عن النظام ، وهذا ما يفتح اتهامات لا حصر لها على النحو الذي نعرفه جميعا الآن في منطقة الشرق الأوسط . الشيء الوحيد الذي يدعو للتفاؤل في هذه الأجواء الكئيبة ، أن الصورة تبلورت بسرعة ، وخلال سبعة أشهر فقط ، راحت السكرة وجاءت الفكرة ، وتلاشت الأحلام الوردية لنستقبل الواقع بكل كآبته وخطورته ، الأمر الذي يقدم خدمة للقوى الوطنية وللسلطة ذاتها أن تفكر جديا في طريق حقيقي وناضج وجاد لإنقاذ الوطن ، بعيدا عن حسابات إقليمية تدفعنا لخوض معاركها وليس معاركنا ، وبعيدا عن أحقاد تنظيمية أو سياسية ، وبعيدا عن الانزلاق إلى العناد والمكابرة التي هي أقصر الطرق لسقوط أي نظام سياسي في ظل ظروف بالغة الخطورة مثل ظروف مصر الآن ، أعرف أن هناك في الدائرة المحيطة بالسيسي من يغريه بالانغراس أكثر في هذه الهاوية ، إما بدافع الجهل أو بدافع الانتهازية على أمل أن يتورط ويضعف ثم يرثوا البلد بعد إضعافه أو حتى إسقاطه ، ولكني أراهن على أن الرجل يملك من العقل والحكمة والدهاء أيضا ما يجعله لا يخاطر بنفسه ولا بوطنه ولا بجيشه في تلك المغامرة ، ولا يطرب كثيرا لأصوات النفاق والتزلف وحملة المباخر لكل ذي سلطان . ما زالت الفرصة قائمة لإنقاذ الوطن وتصحيح المسيرة ، بشرط أن تكون الحسابات وطنية مصرية خالصة ، وأن نعود إلى القاعدة الأساسية لثورة يناير وأيضا خارطة الطريق التي طرحت في 3 يوليو 2013 ، مصر تنهض وتنتصر بجميع أبنائها ، ومشاركة كل قواها ، بلا إقصاء ، وبلا تعصب ، وباحترام الجميع للجميع ، وبالشعار الملهم الذي ما زال يحتفظ بروعته ومصداقيته : عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية ، كرامة إنسانية .