لا أتذكر اسم الفيلسوف الفرنسي الذي قال أنه حتى ينجح أي نظام سياسي أو اجتماعي جديد فإنه لابد أن ينهض على أنقاض النظام القديم. يفهم من هذا القول أن أي نظام جديد لا يمكن أن يكتب له النجاح إذا ما ظل النظام القديم قائماً بأي شكل لسبب بسيط وهو أن محصلة وجود نظامين يعتنقان قيما مختلفة هو الصراع وعدم الاستقرار بسبب استحالة التعايش السلمي بينهما. ولو أننا انتقلنا إلى ما يحدث في منطقتنا العربية نجد أن هناك شعوباً عاشت لعقود طويلة في كنف نظم ديكتاتورية قمعية وفاسدة والآن تقاتل هذه الشعوب من أجل استرداد حقوقها المسلوبة وتضحي بكل ما تملك من أجل إقامة نظام جديد ترتكز دعائمه على الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والشفافية، هذه المنظومة من القيم مختلفة تماماً عن منظومة الاستبداد والفساد والظلم والقمع التي كانت متحكمة والتي تسعى الآن لتغير جلدها أملا في العودة المتخفية لاحقاً. لقد نجحت الثورة في بلدين حتى ألآن هما تونس ومصر في تحقيق تقدم ملموس نحو فرض منظومة قيم الثورة ومع أن المهمة لازالت في بدايتها فأن هناك من يعتبر أن الثورة قد انتصرت بالفعل و أنه ليس هنالك مبرر لقلق البعض من مخاطر حدوث ثورة مضادة من فلول النظام القديم . وفي رأينا أن هذا القلق السائد لدى الكثيرين قلق مشروع وله وجهاته حيث أن قواعد النظام القديم لازالت سليمة وقوية إلى حد ما رغم مظاهر التصدع البادية للعيان. وكما أسلفنا فإنه من غير الحكمة تصور إمكانية بناء النظام الجديد على قواعد النظام القديم كما يرى بعض ذوي النوايا الطيبة الذين يدعون إلى التسامح مع رموز الفساد القديم والتغاضي عن محاولاتهم الدنيئة لغسيل شخصياتهم وإعادة تقديم أنفسهم كمؤيدين ومنظرين للثورة. إن هؤلاء المنافقين والمحتالين هم أول من سيطعن الثورة من الخلف عندما تسنح أول فرصة لهم لإعادة تنظيم صفوفهم والانقضاض من جديد. مرة أخرى أقولها بأمانة لكل من يطالب بالعفو عما سلف والتسامح مع المفسدين وأولهم الرؤساء المخلوعين في كل من تونس ومصر وكبار زبانيتهم بدعوى أنه لا يصح أن نضيع جهودنا في ملاحقتهم وأنه ينبغي أن نركز على بناء النظام الجديد، أقول لهم أن النظام الجديد الذي ننشده منذ عقود والذي ضحى من أجله شهداء وشباب الثورة لن ينجح ولن يدوم إلا إذا أقيم على أنقاض النظام القديم. إن مجرد تصور إمكانية أن نقيم منظومة القيم الجديدة في ظل وجود رموز وقواعد النظام القديم هو بمثابة خطأ جسيم قد ندفع ثمنه غالياً. لابد من تقويض أركان النظام القديم كمهمة أولى أو على أقل تقدير الشروع في بناء النظام الجديد وفي نفس الوقت عدم التباطؤ في محاصرة الفساد وتدمير قواعده وفق خطة مدروسة وعلى سبيل المثال كيف يمكن أن نعطي ظهورنا أمنين لكل المسئولين في قطاعات الصحافة والإعلام وحتى الفن الذين كانوا يطالبون بحرق وقتل المتظاهرين في بدايات الثورة في كل من تونس ومصر؟ كيف يمكن أن نثق فيمن ظل يؤيد النظام المنحل ويشاركه في نهب مقدرات هذه الشعوب المظلومة والمقهورة على مدار السنوات الطويلة الماضية؟ كيف نسمح لمبارك وأسرته وكبار معاونيه بالبقاء في قصر منيف في شرم الشيخ يستمتعون بحياة فاخرة وتحت إمرتهم جيش من الحشم والخدم والسيارات والطائرات الخاصة بعد كل ما فعلوه بمصر والمصريين عبر ثلاثين عاماً من النهب والقمع والامتهان بينما يقف في ذات الوقت الآلاف من المصريين الشرفاء في طوابير طويلة من أجل الحصول على الخبز ناهيك عمن يقف في طوابير أخرى من أجل بيع كليته لإطعام أسرته؟ هل هان عليكم أيها المطالبون بالتسامح والغفران أن تنسون كل هذا الخراب والظلم الذي حاكه هؤلاء المستبدون من أمثال بن علي ومبارك وغيرهم بشعوبهم؟ إن كل ما نطالب به هو تقديم هؤلاء اللصوص والسفاحين إلى المحاكمات العادلة وليس ضربهم أو سحلهم أو دهسهم بالسيارات كما فعلوا بأبنائنا. إن تراخي قيادة المجلس العسكري الحاكم في مصر عن ملاحقة رموز الفساد في عهد الرئيس المخلوع وتبني البعض لمقولة عفى الله عما سلف هما أخطر ما يهدد الثورة ألان. محمود يوسف بكير مستشار اقتصادي مصري [email protected]