اهتم القرآن الكريم اهتماما بالغا بالكشف عن المنافقين وأساليبهم الملتوية ونفوسهم المريضة ، فرصد طبائعهم ، وسجل انحرافاتهم ، وشخص صفاتهم تشخيصا دقيقا يحدد معالمهم ؛ ليحذرهم المجتمع ، قال تعالى " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول " [سورة محمد/ آية 30]. ومن مظاهر اهتمام القرآن الكريم بكشف هوية المنافقين وطبيعتهم أن خصص في شأنهم سورة سميت باسمهم ، وهي سورة (المنافقون) ، وتحدث عنهم في سور عديدة كالبقرة والنساء والتوبة والأحزاب ومحمد وغيرها . بل إن سورة البقرة في افتتاحيتها تحدثت عن أوصاف المؤمنين في أربع آيات فقط ، وعن الكافرين في آيتين فقط ، على حين تحدثت عن المنافقين وأكاذيبهم في ثلاث عشرة آية ، وهي ملاحظة يجب أن نقف أمامها طويلا ، ونحن نرصد طبائع المنافقين كما وكيفا. وللمنافقين أوصاف عدة أوردها القرآن الكريم في مناسبات شتى ، ومن أبرز هذه الأوصاف: أولا: استشعار الريبة: فهذا الوصف أكثر ما يكون انطباقا على المنافقين ، فهم أعلم الناس بدخيلة نفوسهم التي تناقض ما يظهرونه تمام المناقضة ، ومن ثم تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت –كما بينت الآية التاسعة عشرة من سورة الأحزاب- ، وتصدق عليهم الحكمة العربية (يكاد المريب يقول خذوني) ، ولذلك حينما يظهرون انتماءهم لأي وضع جديد لا يطمئن بهم هذا المظهر ولا يحسون السكينة في تمثيله لسبب واحد هو خشيتهم من أن يطلع الناس على خبيئة نفوسهم التي لا تعرف مبدأ ولا تحترم موقفا ، ومن ثم فهم يتلمسون كل وسيلة لزيادة تضليل الناس عن حقيقتهم وصرفهم عن الشك في أمرهم . ثانيا : الكذب: وهو صفة لازمة للمنافقين ، فالنفاق بطبعه يهيئ صاحبه لتشرب الكذب ؛ ذلك أن المنافق لا يعرف إلا نفسه ومصلحته الشخصية ، ومن ثم فهو متذبذب يكذب على الجميع ، وصدق الله القائل عن المنافقين " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " [سورة النساء/ آية 143] ، والكذب ينبع من نفس خبيثة ، ويمثل فقدان الثقة بالنفس وفقدان الشعور بالكرامة والعزة ؛ لأن الذي يعتز بنفسه لا يرى غضاضة في أن يظهر حقيقة موقفه للناس حتى ولو كان يعلم أن ما يقوله لا يرضى معظمهم ، والذي يعتز بنفسه يأبى أن يؤثر عنه الكذب ، أما الشخص الأجوف الذي لا مبدأ له ولا عقيدة فهو الذي يتلون كالحرباء ويتحول حسب المصلحة ، فلا قرار له ولا ثبات ، وقد سجل القرآن الكريم الكذب على المنافقين في أكثر من موضع ، ومن ذلك قوله تعالى " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " [سورة المنافقون / آية 1] ، وقوله " والله يعلم إنهم لكاذبون " [سورة التوبة / آية 42]. ثالثا : الاعتماد على المظهر المخادع : فالمنافق يملك قدرة هائلة على التضليل وقلب الحقائق وتزييفها معتمدا في هذا على الخداع الكلامي وتنميق العبارات الجوفاء ورفع الصوت النكير ، وقد سجل القرآن الكريم علي المنافقين هذا الوصف في قوله تعالى " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليه هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون " [سورة المنافقون/ آية 4]، فهم يجعلون هذا المظهر الخادع حاجزا وحجابا بين ما تنطوي عليه نفوسهم وبين الناس ، فهم رجال كل العصور الذين يستطيعون ركوب أية موجة جديدة مدعين أنهم ربانها وموجهوها ، بل ويقفزون على اختطاف كل ما هو شريف ونبيل ، مخاطبين كل الأطياف بأنهم معهم وبأنهم وحدهم رجال المرحلة الراهنة . قاتلهم الله أنى يؤفكون . رابعا: الجبن الشديد : وجبن المنافقين ليس وليد موقف معين أو مثير مفاجئ ، وإنما هو شعور دائم بالخوف من كل شيء ، فالخوف ملازم للمنافق ومسيطر عليه في كل أوقاته وحالاته ؛ لأنه متجذر في أعماقه مخافة أن يفتضح أمره ، وهذا المعنى يصرح به قوله تعالى " يحسبون كل صيحة عليهم " ، وقوله تعالى " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون . لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون " [سورة التوبة / الآيتان 56، 57]، ولفظ (يفرقون) يوحي بأن خوف المنافقين الذين يقتاتون على كل الموائد غير خوف سائر الناس ، وإنما هو خوف من طراز خاص مشوب بالفرار والاختفاء والتبرؤ مما كانوا يرجفون به في السابق ، كما أن لفظ (يجمحون) يوحي بأن رغبة المنافقين في الهروب مما كانوا يروجون له في السابق وتحولوا عنه نتيجة ما استجد من أوضاع تملك عليهم كل حواسهم ، وتسيطر عليهم سيطرة تفقدهم الاتزان وهدوء المسلك . هذه أبرز أوصاف المنافقين الواردة في القرآن الكريم والتي تظهر خستهم وندالتهم ودورهم الكبير في ترسيخ الفساد والاستبداد . • أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية بنات عين شمس