الحكومة الجديدة التي أدت اليمين القانونية لتبدأ عملها رسميا هي نفسها الحكومة القديمة ، هي نفسها حكومة حازم الببلاوي ، فقط تم إبعاد الببلاوي والأربعة الذين كانوا يمثلون شراكة سياسية ولو شكلية مع الأجهزة السيادية والمؤسسة العسكرية في حراك 30 يونيو الذي أطاح بنظام مرسي وأتى بالنظام الجديد، وبعض هؤلاء الوزراء كانوا يتصرفون باعتبارهم "شريكا" في النظام السياسي الجديد ، فصبروا عليهم عدة أشهر ثم ودعوهم بصنعة لطافة ، مع السلامة ، وعادت الحكومة المصرية حكومة سكرتارية للقائد كما كان يقول قطب الحزب الوطني الشهير وأمينه العام الأسبق يوسف والي "نحن جميعا سكرتارية للسيد الرئيس" ، والسكرتير من أهم مواصفاته أن لا يجتهد ولا يبدع ولا يبادر ، هو ينفذ التكليفات حرفيا ، ويلتزم بالطاعة العمياء ، ويكون كاتما للسر ، عشرون وزيرا من حكومة الببلاوي استمروا مع إبراهيم محلب ، وعشرة آخرون تقريبا هم الجدد ، منهم واحد بديل لمتوفي ، وأربعة بديل لأصدقاء الببلاوي : زياد بهاء الدين وأحمد البرعي وكمال أبو عيطة وحسام عيسى ، وكان أبرز شخصية أثارت الجدل في التغيير هي وزير العدل ، حيث تم إبعاد المستشار عادل عبد الحميد ، رغم الضغوط العنيفة التي مارسها المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة على أكثر من طرف في السلطة والأجهزة السيادية من أجل الإبقاء على عبد الحميد ، إلا أن حجم الاتهامات التي وجهت إلى عبد الحميد من الجهاز المركزي للمحاسبات كانت من النوع الذي يصعب تجاهله ويستحيل أن يبقى وزيرا للعدل وهو متهم بهذه الاتهامات المهينة من أكبر جهاز رقابي رسمي في الدولة ، وبدون شك فإن الإطاحة بعادل عبد الحميد يمثل هزيمة سياسية قاسية لأحمد الزند ، كما أن بعض توابع هذه المعركة ومراراتها سيكون له صداه العنيف داخل البيت القضائي ، سواء نادي القضاة أو بعض الجهود التي تمثل امتدادا للصراع مع تيار الاستقلال في ملفات مفتوحة الآن ، المعادلة ستختلف في الفترة المقبلة بصورة كبيرة ، وسيعاني الزند مرارة الانقسام والضرب تحت الحزام من أقرب أصدقائه . ابراهيم محلب بدأ "اللعب" الإعلامي له بحزمة توجيهات تظهره بصورة الرجل الجاد والحريص على التقشف والحفاظ على المال العام ، ووصل الأمر إلى حد إعلانه الامتناع عن استخدام المياه المعدنية في اجتماعات مجلس الوزراء ، رغم أن كرتونة مياه واحدة تكفي كل من في الاجتماع حتى لو كان "آكل ملوحة" ، وهي لا تتجاوز العشرين أو الخمسة وعشرين جنيها ، في حين أن محلب صمت صمت الحملان على ملفات الفساد التي كشف عنها المستشار هشام جنينة ، والتي بلغت أكثر من ثلاثين مليار جنيه ضاعوا على الدولة ، ولو كان محلب جادا في حرصه على المال العام لكان أول وأهم قراراته تشكيل لجان فحص في تلك الفضائح ، وإلزام الجهات والأشخاص الذين استولوا على هذه الأراضي والممتلكات أن يعيدوها للدولة أو أن يدفعوا فارق السعر ، فثلاثون مليار جنيه تستحق أن تدعي فيها البطولة ، وليس التعفف عن كرتونة مياه معدنية بعشرين جنيها . إقالة المستشار عادل عبد الحميد وزير العدل هي أول إشارة إلى رد الاعتبار إلى الرجل النبيل والقاضي العظيم المستشار هشام جنينه ، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، الذي كشف عن تورط عبد الحميد في الحصول على مبالغ طائلة من المال العام بدون سند من القانون ، وكان أولى به أن يتنزه عنها حتى لو كانت مجرد شبهه وليست مخالفة صريحة كما يدعي ، ما معنى أن تحصل على مئات الآلاف من الجنيهات من جهة تتبع وزارة أخرى وأجهزة أمنية وأنت تعمل وزيرا للعدل في نفس الحكومة ، لا يوجد قاض يحترم تاريخه ومقامه يفعل ذلك ، كما أن الإطاحة به تحرج أيضا النائب العام الذي قرر حفظ التحقيق في تلك الواقعة ، وعندما طالبه الجهاز المركزي بالاطلاع على أسباب حفظ التحقيق رغم وضوح الواقعة والوثائق والأدلة ، رفض النائب العام ذلك ، قرار استبعاد عادل عبد الحميد يعني أن في الواقعة ما كان يستحق التحقيق ويستحق اتخاذ إجراء فيه ، غير أن واقعة عبد الحميد هي نقطة في بحر الفساد الذي كشفه المستشار هشام جنينه وفريق الخبراء في الجهاز المركزي من تورط جهات سيادية وأعضاء بالنيابة وقطاعات مهمة في وزارة الداخلية في وقائع الفساد ونهب المال العام واستباحة أراضي الدولة ، في الوقت الذي كان من المفترض أن يكون هؤلاء هم من يحمون المال العام ، هل يجرؤ إبراهيم محلب على فتح هذا الملف ، هل يجرؤ على المطالبة باستعادة المال العام المنهوب . شخصيا لا أضع أي آمال على محلب ، لاعتبارات تتعلق بتاريخه أولا ، وثانيا وهو الأهم تتعلق بالظروف الموضوعية التي يعمل فيها ، وأكاد أجزم أن الشعب المصري الذي عانى الهزال الاقتصادي والاضطراب الأمني أيام الببلاوي ، سيترحم على أيامه عندما يرى بؤس الحال الذي تؤول إليه أمور الدولة في عهد محلب الذي لن يطول كثيرا .