في الوثائق التي تسربت من ملفات جهاز مباحث أمن الدولة كشف النقاب عن أن إحدى خطط ضرب الثورة وإرباك حساباتها وترويع المواطنين من توابعها ، كان يتمثل في استخدام التليفزيون الرسمي للدولة وخاصة برامج الذروة في إذاعة عدد من الشائعات الخطيرة التي تبث الرعب في قلوب الناس عن طريق ترتيب اتصالات مع نساء مستأجرات عبر الهاتف تصرخ لطلب النجدة عن عمليات استباحة أو هجوم أو قتل من قبل بلطجية أو مجهولين في الشوارع والبيوت وتستغيث بالشرطة والأمن والدولة لإنقاذها وأطفالها من الخطر المحدق ، مع بعض التوابل مثل الصراخ والبكاء والعويل والحقونا!! . ومن حسن حظنا أن تلك الوقائع قريبة العهد بنا جدا ، وبالتالي يصعب على الذاكرة أن تنسى أن خيري رمضان وتامر أمين كانوا أبطال تلك العملية بامتياز ، وهو ما يعني أن الاثنين مارسا دورا محوريا في مخطط مباحث أمن الدولة لإحراج الثورة ومحاولة إجهاضها واختراع الأكاذيب من أجل بث الرعب والفزع في قلوب الناس وإخافة المعتصمين في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر ومدنها المختلفة لكي يعودوا إلى بيوتهم لحمايتها ، وبالتالي يتم إخلاء الميادين بصورة سهلة وسريعة ، وقد شاركت برامج مختلفة ومذيعات ومذيعين ، إلا أن خيري رمضان وتامر أمين كان لهما دور البطولة في تلك اللعبة التي مارسها الجهاز الأمني بالتنسيق مع التليفزيون . وإذا كانت الملفات التي تم العثور عليها في مقر مباحث أمن الدولة الرئيسي في مدينة نصر كشفت عن أن الجهاز كان يمارس نشاطه وتآمره حتى اللحظة الأخيرة قبل يومين فقط من الآن ، وأن هناك تقارير وصور ومذكرات أعدت أول أمس ، أي قبل سقوط الجهاز بساعات قليلة ، فإن هذا ما قد يلفتنا إلى ما حدث خلال الأيام الماضية من قصص أخرى واتصالات مجهولة مع خيري رمضان في سهرات "مصر النهاردة" والتي تروى قصصا عن الانفلات الأمني والفوضى والكوارث والاستغاثات التي تأتي من مواطنين ومن ضباط شرطة على حد سواء ، من أجل إيصال رسالة بأن البلد "خربت" بعد مبارك ونظامه ، وأن الثورة تسببت في الفوضى وضياع الأمن والأمان. والحقيقة أن جهاز مباحث أمن الدولة كان يقوم بدور المخطط والموجه ، بينما عمليات التنفيذ كانت تقوم بها جهات مختلفة كأدوات ، مذيعين أو صحفيين أو رؤساء جامعات أو برلمانيين أو غيره ، والمؤكد أن سقوط هذا الجهاز الرهيب سيعني تقليص الكثير من عمليات "الثورة المضادة" التي كان يشرف عليها ويخطط لها ، إلا أن هذا لن يوقف تماما محاولات التآمر والالتفاف على الثورة من خلال بقايا النظام البائد وأنصاره ومرتزقته في التلفزيون الرسمي وبقية المؤسسة الإعلامية ، ومن هنا كان من الضرورة بمكان تركيز الثورة وشبابها على تطهير المؤسسة الإعلامية من كل تلك الوجوه الكئيبة المتآمرة من بقايا النظام الفاسد ومنظومته المترعة بالتآمر والانتهازية والقمع . لقد أثبت الشعب المصري طوال هذه الثورة أنه شعب عريق في تحضره ، وفي مروءة أبنائه وعمق تجذر الأخلاق التي تربط نسيجه ، لدرجة أن مستويات العنف والجريمة طوال الشهر الذي اختفت فيه المؤسسة الأمنية بالكامل ووزارة الداخلية بكل أجهزتها بالكامل ، لم تعرف البلاد أي طفرات للجريمة والانفلات ، إن لم يكن قد قلت الجرائم وانحسرت ، وحتى في حركة المرور ، لا تكاد تشعر أن شيئا اختلف ، ولقد عاشت البلاد عدة ليالي كانت فيها البنوك ومؤسسات المال والاقتصاد ودور العبادة ومحطات الكهرباء والمياه والمؤسسات البترولية والمنشآت الخطيرة كافة ، بدون أي تغطية أمنية من أي نوع ، بعد انسحاب الداخلية المفاجئ ، ومع ذلك حمى الشعب مؤسساته ومقدرات وطنه ، كما حمى بيوته وشوارعه ، ولو وقعت تلك الحالة في بلاد أخرى لتحولت إلى غابة مستباحة ودمار بلا حدود ، ولكنه الشعب المصري العريق ، بعمق تجذر الدين في قلوب أبنائه ، وثبات قيم الحلال والحرام ، والحق والباطل ، والعدل والظلم ، من قبل القانون ومن بعده ، أكد ذلك الشعب من جديد على أنه لم يكن أبدا يستحق كل تلك الترسانة الأمنية الإجرامية القمعية التي تدعي حفاظها على الأمن ، بينما هي تقهر الوطن والمواطن من أجل التمكين للطاغية وأسرته ، لم يكن الشعب المصري يستحق أن يعيش عقودا طويلة أسيرا لقوانين الغابة ، قوانين الطوارئ ، وقد أثبت للعالم كله أنه حتى بدون وجود قانون من أصله ، يعرف كيف يحمي نفسه ودولته ومؤسساته ، شعب بكل هذه العراقة ، وكل ذلك التحضر ، وكل ذلك النبل ، يستحق عن جدارة ، حياة أكثر حرية وأكثر كرامة وأكثر ديمقراطية . [email protected]