«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الدورة التاريخية إلى الدورة الحضارية!
نشر في المصريون يوم 06 - 03 - 2011

ثمة مقولة نفيسة للأديب الفرنسي الشهير فيكتور هيغو يقول فيها: « لا توجد قوة مهما عظمت يمكن أن تمنع قيام فكرة آن أوانها». هكذا هي الثورات العربية بالضبط، والتي ليست سوى ولادة آن أوانها. فالأمة استقبلت كل أنواع الحقن الصليبية واليهودية والوثنية والدهرية والإلحادية المسمومة، وحبلت، وانتفخ بطنها إلى آن أوان ولادتها. وشاءت أقدار الله أن تكون بداية الطلقة الأولى لهذا المخاض العسير من تونس. وها هو الطَلَقُ يشتد، بعد مصر، انطلاقا من ليبيا. أما السؤال فهو: ما هي الفكرة التي آن أوانها؟
مطالب فريدة
الاستعمار ليس سوى فكرة استعلائية عنصرية تقوم على: (1) إحلال منظومة عقدية أو فكرية أو قيمية محل منظومة أخرى، أو (2) السيطرة على الخصوم والأنداد وإجبارهم على الاعتراف بالزعامة عبر مبدأ القوة القاهرة، أو (3) الاستحواذ على الثروات والموارد وإجمالي الخيرات في البلاد المستعمرة. هذه المبادئ الثلاث قابلة للتفصيل بحسب الفترة التاريخية، ولسنا هنا معنيين بذلك بقدر ما سنهتم بتلخيص الحالة التي صارت عليها الأمة.
فمع بدء العصر الميكانيكي، مطلع القرن التاسع عشر، وانتصار الرأسمالية في الغرب انطلقت العربة الاستعمارية لتحط رحالها في الجزائر (1832)، واستهدفت، رفقة اليهود، باحة السلطة العثمانية عبر إغراقها بالديون وما اشتهر بنفوذ وامتيازات عهد القناصل الأوروبيين، فضلا عن الغزو الفكري الذي أخذ يستوطن في البلاد العثمانية انطلاقا من منتصف القرن الثامن عشر إلى أن انتهى بإصلاحات دستورية ذات مصدر أوروبي. ثم في مرحلة لاحقة بدأت الأمصار الإسلامية تتساقط الواحدة تلو الأخرى كما حصل في مصر وتونس سنة 1882. ومنذ هذا التاريخ بدأ الاستيطان اليهودي يتسرب، بشكل مباشر أو عبر القناصل الأوروبيين، إلى فلسطين.
خلال مراحل التاريخ الإسلامي كانت العلاقة مع القوى الغربية الصليبية تميل لصالح الجيوش الإسلامية التي استطاعت فتح القسطنطينية والتوغل في أوروبا إلى حد تهديد الإمبراطورية النمساوية التي كانت، في ذلك الوقت حاضرة أوروبا. أما الصليبيون فبالكاد تمكنوا من بعض الثغور في العالم الإسلامي خاصة على سواحل بلاد الشام. ومع ذلك فما كان لتدخلهم الحربي أن يهدد عقيدة أو ديارا أو معاشا إسلاميا. وعلى العكس من ذلك فقد تدافع المسلمون مع الغزوات الصليبية في صولات وجولات. وحتى بيت المقدس فلم ينل اغتصابها لقرن من الزمان من بيضة الإسلام كما نال منها اليوم منذ بداية الغزو الصليبي اليهودي الجديد.
فقط بعد الحرب العالمية الأولى، وانكشاف معاهدة سايكس – بيكو، وإطباق الغرب بكل قوته على ديار المسلمين، بشكل مباشر ودفعة واحدة، شعر العرب والمسلمون بأن جسما ثقيلا جثم على صدر الأمة، وفي عقر ديارها مرة واحدة، حتى أن سايكس – بيكو تحولت، مع الوقت، إلى حالة ثقافية مستعصية.
لو فتحنا كتب التاريخ الإسلامي قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية لما وجدنا أي أثر لمصطلحات مثل الوطن أو المجتمع أو الاستقلال أو الحرية أو حق تقرير المصير أو السيادة أو العلم الوطني ... فهذه كلها مصطلحات غربية المنشأ والمحتوى. ومع ذلك فقد كانت القوى الاستعمارية سعيدة وهي تشاهد الحركات الوطنية المحلية تنبثق رافعة هذه المصطلحات كشعارات مقدسة ومطالب لا تنازل عنها!!!
لكن الحقيقة أن الأمة دخلت، مع مطلع القرن العشرين، في دورة حضارية ثقيلة الوقع. ويبدو أن الأمة أُغلق عليها تحت وقع الصدمة، ولم يعد بوسعها أن تفكر أو تستوعب ما يحصل لها أكثر من الحاجة إلى إزاحة هذا المارد الغريب والثقيل عن الصدر قبل أن تلتفت لأي أمر آخر. وهكذا ظلت في مخاض عسير استمر إلى أوائل الستينات، حيث توارى الاستعمار المباشر من الحياة العامة. وتبعا لذلك، ظنت الأمة أن إسرائيل لقمة سائغة يمكن إزالتها بالوحدة العربية أو بالأممية أو بالزعامات الراديكالية. فانشغلت بالاستعداد للمعركة الفاصلة فإذا بها تخسر ما تبقى من فلسطين، ويتجدد غزوها من جديد.
ظلت الدورة الحضارية الغربية والصهيونية مستمرة في العالم الإسلامي، وفي القلب منه العالم العربي، إلى يومنا هذا. وتعرض الإسلام والمسلمون إلى حروب طاحنة كانت الهزيمة، على الدوام من نصيبهم حيثما كانوا. وإذا كان الغرب قد تناوب على قيادة دورته الحضارية في الأمة فقد كان اليهود، وما زالوا، يلعبون دور رأس الحربة لهذه الدورة.
ما يحدث في الأمة من ثورات عاصفة لا يمكن أن تكون إلا حدثا تاريخيا يمكن أن يؤدي، لاحقا، إلى التحول من دورة تاريخية إلى دورة حضارية بامتياز. ولا شك أن الانقلاب بدأ من الصحوة الإسلامية وصولا إلى مرحلة الجهاد الأفغاني الأول، الذي مثل انعطافة حادة جدا أطاحت بإحدى أشرس الإمبراطوريات العظمى في التاريخ. من هنا بدأت المواجهة مع الغرب وأدواته وحلفائه تنحى منحاً جديدا، قائم على العقيدة خاصة بعد 11 سبتمبر 2001.
حتى الآن تخلو الثورات العربية، بشكل كبير، من المطالب العقدية كتطبيق الشريعة. فهي تتجنبها ليس نفورا منها أو كرها بها بل لأنها تخشى من توظيفها في حشد الخصوم لوأدها من قبل النظم السياسية والقوى المعادية لها. لكنها، ثورات، لا تخلو أبدا من المصطلح العقدي الذي تتصاعد وتيرته وتتبلور تباعا، سواء عبر صيحات التكبير والتهليل، أو عبر طلب الدعم والمساندة من المشايخ والعلماء، أو باستحسانها لمصطلح عقدي بارز صار يوصف به الزعماء العرب .. وهو مصطلح « الطاغوت أو الطاغية أو الطغيان أو الطغاة » الذي كان أشبه ما يكون من « اختصاص» تيارات الجهاد العالمي، بينما هو الآن من مفردات الخطاب الإعلامي ناهيك عن الخطاب الشعبي.
أكثر ما يلفت الانتباه بالثورات العربية يكمن في تركيزها على أمرين مميزين ألحقا أضرارا بالغة جدا في ماضي الأمة وحاضرها. وهما: (1) الطغيان بشتى أنواعه وتداعياته وأثره على الأمة و (2) النهب المنظم للثروات والموارد. هذان المعطيان سَلَبا لبَّ الثورات الشعبية بكافة الشرائح العمرية والثقافات والمكانات الاجتماعية والقوى السياسية. وتَصدَّرا رأس هرم الاحتجاجات، واستوطنا في أعماق النفس العربية. لكن أميز ما فيها أنهما معطيان لم يسبق للأمة أن طرحتهما، منذ انهيار الخلافة وحتى الثورات الحالية، ولا مرة واحدة بهذا الشمول والإصرار والتحدي والعناد.
حرارة الشعوب
الشعوب، إذن، لا تقلد بعضها أبدا كما يحلوا القول للرئيس اليمني وغيره من أصحاب مقولات: تونس ليست مصر .. واليمن غير الجزائر .. والسعودية دولة توحيد .. وتلك قبلية .. وهكذا. ولعل مثل هذه المقولات كانت تنطبق على ثقافات الشعوب وقيمها وعلاقتها البينية. لكنها لا تنطبق على نظم الطغيان السائدة فيها منذ زمن بعيد. ومن طرائف الثورات الراهنة أنها لم تشتك من أزمات اقتصادية بقدر ما اشتكت من الطغيان والنهب، خاصة وأن الشعوب تعلم علم اليقين أن البلاد العربية غنية الثروات والموارد. ولما تكون كذلك؛ فأين اختفت؟ هكذا أيضا تكتشف الشعوب ذواتها في لحظات ثمينة جدا من الزمن آن أوانها، لاسيما وأنها لم تكن بحاجة لأكثر من شرارة مع توفر الوقود التاريخي من الطغيان والنهب.
المحتوى القيمي والثقافي للشعوب كانت تعكس، إلى حد مريع، تنافرا وتشاحنا وتحقيرا فيما بينها. فالليبي، مثلا، كان يكره التونسي لأن هذا الأخير يحتقره ويقلل من مكانته. وكذا المصري الذي بدا منبوذا محتقرا من الشعوب العربية كلما شوهد يلهث في البلاد العربية محاولا الظفر بلقمة العيش لأبنائه، ولا بأس أن يتجرع في سبيلها مرارة الذل والقهر والدونية، وكأن حظه من الدنيا موقوف على أن يظل أحط العبيد رغم أنه صاحب أعرق حضارة إنسانية. والأردني يتوجس خيفة من الفلسطيني، وهذا الأخير يستعلي عليه!!! والشامي إجمالا ينظر إلى الخليجي والسعودي خاصة وكأنه زير نساء يمتلك من المال ما يجعله يستعبد به غيره بينما هو في الحقيقة بدوي أو أعرابي، حتى غدا زواج الخليجي من غير أهل الجزيرة مستعصيا ومهينا لأهل الشام مثلا. وهذا الخليجي يشعر بنفرة ذات محتوى عنصري تجاه العرب المستعربين ... .
حتى اندلاع الثورات، وفي الأسابيع الأولى منها، كنا نسمع، أيضا، ذات المصطلحات من نوع: « دي بلدنا لازم نحافظ عليها! ... بلادنا وحرِّين فيها .. هذيا بلادنا واللي يحب يتعاطف معنا أهلا وسهلا ، لكن منحبوش شكون يقول لينا ما نعمل!!! ما نحبش ندمر بلادنا .. هذه غرفة مصرية .. وهذه ليبية .. وهذه ... » وهكذا .. لكن ماذا يقول الفلسطيني المُهجَّر أو المُحاصَر أو الذي لا يعترف به أحد؟ ماذا يقول المعدمون من العرب ممن لا يجدون ما يفتخرون به أو يدافعون عنه أو حتى من ينظر إليهم من البشر ولو بقليل من العطف والرحمة؟ ماذا يفيد هؤلاء أن يكونوا مصريين أو سوريين أو مغاربة أو من الجزيرة العربية ممن لا يجدون مجرد لقمة عيش أو كرامة؟
هكذا شوهت النظم السياسية والفلسفات الغربية علاقات العرب فيما بينهم. وبكل وسيلة، سياسية أو أمنية أو إعلامية أو ثقافية ... زرعوا البغضاء والحقد والحسد والتحاسد فيما بينهم حتى صاروا يتربصون ببعضهم البعض وكأنهم ألد الأعداء الذين لا تجمعهم رابطة دموية ولا عقيدة إسلامية ولا تاريخ مشترك ولا لغة واحدة. الصحيح أن سايكس – بيكو حجبت عنا الحقيقة، وقتلت فينا المحبة، وحولتنا إلى مسوخ بشرية لا رابط بينها إلا العدوانية، وقيم العنصرية المستجلبة من الثقافات الغربية المنحطة، التي لا تخجل أن تتحدث عن حقول إنسان هي أول من أهدرتها.
لما صارت المواجهة مع الطغيان العربي والأجنبي مفتوحة على مصراعيها صرنا نلاحظ تقاربا عجيبا ليس بين العرب فحسب بل وبين المسلمين. لكن لما انفجرت الثورات العربية ظهرت العلاقات الحميمية بين الشعوب .. وتفجرت مشاعر الاعتزاز والفخر بين العرب وهم يرون شجاعة التونسي ونباهة المصري ورجولة الليبي وحكمة اليمني ووفاء السعودي وأمل الفلسطيني ... ولقد تفجر نوع آخر من العلاقات الحميمية التي يدعو فيها الكردي، بحرقة، على الطغاة والطغيان من أعماق قلبه .. ويتحسر فيها العربي لو أنه ليبي في بنغازي أو مصراتة أو الزاوية أو البريقة، أو مصري في قلب ميدان التحرير يناصح أهله وإخوانه ويدافع عنه ويشاركهم بطولاتهم وآمالهم وتطلعاتهم، أو يمني لم يجد بدا من أن يكون في قلب الحدث الليبي على طريقته .. وهو يتوعد رئيسه، بالويل والثبور، بعد الانتهاء من القذافي، ويصرخ في الجموع: « بعد القذافي».
ثورات كشفت عن شعوب طيبة القلب .. نقية السريرة .. رائعة الخلق .. حلوة المعشر .. كريمة العطاء .. جزيلة التضحيات .. تتحرق للقاء والعناق .. تفيض بجبال من المشاعر الطاهرة والنبيلة .. شاب منها يلعن من فرق الأمة وداس كرامتها وحرمها من المحبة والتواصل وقطّع أواصرها .. امرأة تصرخ بأعلى صوتها: أنا أخت الرجال؛ فمن ينتصر لي؟ .. أخرى تقول: غدا، بعد أن ننتهي من هذا الطاغية سنزحف إلى فلسطين ..
الطغيان
صحيح أن الاستعمار توارى عن الواجهة لكنه بقي كنظام سياسي وأمني يمارس النهب المنظم لموارد الأمة وثرواتها. ومع الثورات باتت الأمة تدرك أن الطغيان لا بد وأن يزول. ففي ظل النظم السياسية ساد الفساد وأصبحت له طبقات وشرائح وأحزاب وحركات وجماعات ومدارس وثقافات وجذور وعلماء ومفكرون وأكاديميون يشرعون له ويدافعون عنه. أما فكرة الإصلاح فقد غدت مستحيلة التحقق. إذ حين يحتكر رأس النظام كافة السلطات بيده فهذا مؤشر قاطع على أنه ما من سلطة في العالم العربي تحت المساءلة. وبالتالي ما من منطق يقنع الشارع بأية وعود تذكر.
هذه النظم تغولت وطغت وتجبرت وأُعطيت أكثر من وقتها، ولم تعد تتمتع بأية مصداقية أو شرعية تذكر. ما الذي أبقى القذافي طوال أربعة عقود وهو بكل هذا الجنون؟ سؤال عبثي!!! إلا إنْ كان الآخرون أصحاء!! فلو كان مختلفا عن غيره ومسيئا أكثر لما تعايشت معه ذات النظم التي ينطق اليوم باسمها، ويفعل ما لم تعد تجرؤ على إظهاره. كل ما في الأمر أنها فكرة آن أوانها. فكما آن أوان بن علي ومبارك فقد آن أوانه هو الآخر.
عجيب أمر الزعماء العرب. حتى هذه اللحظة لم يتعظ أيا منهم. ولعلهم على أحر من الجمر بانتظار صولة القذافي على الجراذين والقطط التي تؤذي كلا منهم في بلاده. لقد سخر الناس من الرئيس التونسي في خطابه الذي ألقاه قبل فراره بساعات، حين قال: « فهمتكم .. فهمت العطَال والبطَال والمحتاج»!!! وكأنه لم يكن يفهم في حياته إلا لما طردوه شر طردة. وعجب الناس من صبر الرئيس المصري على جبال الإهانات التي تلقاها كلما خرج بخطاب يرفض فيه التنحي. لكن العجب الأكبر كان مع القذافي الذي نال من أشنع التوصيفات ما لم ينله مخلوق على وجه الأرض حتى الآن!!! ومع ذلك يخرج على فضائية أجنبية ويقول بكل وقاحة: « كلهم يحبوني»!!! ويرددها بلغة إنجليزية على شاكلته: They love mf all!!!. هل فقد هؤلاء كل كرامة حتى يتمسكوا بهذه المنزلة المنحطة بين الناس وفي بطون التاريخ القادم؟ لسنا ندري كيف ينظر هؤلاء إلى أنفسهم بالمرآة؟ أي وجه يشاهدوه وقد اختفت ملامحه من هول الإهانات التي تعرض لها؟ حتى لو كان أحدهم زنديقا لا يعبأ إلا بلحظته؛ وحتى لو لم يؤمن برب ولا دين ولا حساب ولا عقاب؛ فكيف يحتمل هذه الوضاعة وبإمكانه أن يحيا عزيزا كريما؟
إذا تتبعنا تقارير الفساد، مع الكثير من التحفظ السلبي على الأرقام الواردة، لتبين لنا أن ثلث الناتج القومي العربي، بما يوازي ألف مليار دولار، نُهبت وأودِعت في مصارف الغرب وبنوكه خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وهي مبالغ قطعا لا تستفيد منها الأمة ولا بمقدار حمل بعير. ولو عاش النهابون في لَهْوٍ طوال عمرهم، وعلى مدار الدقيقة لما استنفذوها لخمسة أجيال أو حتى عشرة. وهذا يعني أن الغرب والصهيونية والقوى المعادية للأمة هي الوحيدة التي تستفيد منها. وهذا يعني أيضا أنهم فقط يكنزونها. ويحرمون الأمة من الانتفاع بها، وفي نفس الوقت يُحلِّون للغرب واليهود الاستحواذ عليها والانتفاع بها. فهل بقي من شرعية لهؤلاء؟ وهل يمكن الثقة بهم بعد احتجازهم لحرية الناس، وسفك دمائهم، وإعانة الغرب عليهم، واستباحة كل محرم ومقدس، وإهدار حقوق خير أمة أخرجت للناس؟
المشكلة الأعوص ليست فقط فيما تنهبه النظم السياسية في مستوى الإنتاج القومي الخام؛ بل أيضا في الإهدار الهائل للموارد والثروات. وهذه السياسة أبلغ أثرا من النهب. بالإضافة إلى ذلك ثمة، في كافة الدول العربية بلا استثناء، استحواذ مهول على الموارد والثروات العقارية والشركات والممتلكات العامة. ولا يخفى على متابع أن الكثير من الدول فرطت في القطاع العام عبر نظام الخصخصة، وهذه العملية تسببت بفقدان مئات المليارات من الدولارات دون أي حق في السؤال عن مصيرها.
حتى المساعدات سرقوها وحولوها إلى حساباتهم الخاصة .. حتى من كانوا محسوبين ثوارا استثمروا في الثورات وتسلقوا على الشعب الفلسطيني وراهنوا على الثراء على حساب واحد من أقدس بقاع الأرض. ثم قالوا لنا: أعيدوا قراءة صلح الحديبية!!! هل ثمة وقاحة على وجه الأرض أشد من وقاحة هؤلاء الذين هاجروا، مع أهليهم حفاة عراة، فإذا بهم يركبون السيارات الفارهة ويتخذون لهم قصورا ويفتحون الحسابات بعشرات الملايين .. ويتسابقون في التنسيق مع اليهود لحفظ دمائهم بينما يسفكون دماء أبنائهم؟ أي نوع من البشر هؤلاء؟ أي نوع؟ وأي كرامة لهم؟ وبأي دين يدينون؟
لعله من المدهش حقا أن يكتشف التونسيون في أحد قصور الرئيس المخلوع في ضاحية سيدي أبو سعيد خزانة حائط تحتوي على مليارات الدولارات وعملات صعبة ومصوغات ذهبية ونفائس من شتى الأواع والألوان. مع العلم أن زوجة بن علي نهبت من البنك المركزي قبل فراره 1.5 طن من السبائك الذهبية. فكم تكون حجم ثروته الخفية في تونس أو تلك المودعة في البنوك الأجنبية؟ وكم تكون حجم ثروات النظم السياسية في البلدان النفطية أو ذات الكثافة السكانية؟ أو ممن يحكم البلاد منذ عقود طويلة؟
إذن التخلص من الطغيان، بكل صوره ومضامينه، واستعادة الثروات والموارد المنهوبة لا يمكن أن تكون إلا مطالب آن أوانها!!! فالأمة عانت طويلا جدا من الطغيان السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي والإعلامي والأخلاقي والقيمي والعلمي والمعرفي. وعانت من الاستبداد والتحريف والتبديل والتكتم على الحقائق. وعانت من احتجاز تقدمها. وعانت من حظر كل مبادرة فردية أو منظمة.
الجبر
من رحمة الله في خلقه أنه يريهم آياته لعلهم يتفكرون أو يهتدون أو يتعظون. والآيات لا تنكشف إلا لمن اختصه الله عز وجل برحمته، وكشف عن بصيرته. لذا فنحن، كمسلمين، مأمورون بالتدبر والتعقل والتفكر في آيات الله فلعلنا نستهدي بها فيما استشكل علينا من حوادث.
وفي الحديث النبوي عن الخلافة، يقول صلى الله عليه وسلم، وفق إحدى الروايات، نقلا عن حذيفة: « تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».
القذافي شخصية لا تتقبل غيرها من البشر. فهو قائد الجميع .. وقائد القارات .. وقائد العالم .. وهو صاحب الكتاب الأخضر .. والرافض للسنة النبوية .. وهو الشخصية التي كفرها الكثير من العلماء رغم أنف المرقعين له من الجامية وغير الجامية. هذا مفهوم. والمفهوم أيضا حين نلاحظ أن القذافي لا يعتبر نفسه ملحدا ولا كافرا ولا زنديقا ولا أي توصيف مشين بحقه.
يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ﴿9﴾ ( الحجر). أما القذافي فالآية الخبرية هذه لا تعنيه بما أنه يرى نفسه فوق أمر الله تعالى. ويعتبر أن لفظة « قُلْ » في سور « الناس» و « الكافرون» و« الفلق» و« الإخلاص» دخيلة. فالملك جبريل عليه السلام هو الذي أمر الرسول صلى الله عليه بأن يقول ما أوحى الله إليه، لكنه لم يقل له بأن اللفظة « قُلْ » من الآيات!!! لذا لا يجب أن يقولها المسلمون!!! ولا ريب أن هذا تحريف صارخ. وهو مفهوم!!!
لكن الله، جل وعلا، في لفظة « قُلْ » كأنه يخاطب، مباشرة، كل فرد من خلقه بالامتثال إليه، وأنه لا مفر من أن يردد التوحيد ويستعيذ به وينكر على الكافرين الإيمان بغيره. والمعنى أنه ما لم ينصع الفرد للأمر المباشر من الله سبحانه وتعالى، وردد غيره، فهو قطعا ليس من أهل التوحيد. بهذا المعنى، إنْ صح اجتهادنا بعون الله، فالقذافي شخصية لا ترفض القرآن الكريم فقط، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أقوال العلماء وعامة المسلمين وخاصتهم منذ البعثة النبوية وإلى يومنا هذا، بل وترفض حتى الأمر المباشر من الله من فوق سبع سماوات!!! ثم يأتي من يتبجح بولاية الأمر وحق السمع والطاعة « مهما كان الحاكم»!!! مع أن الشواهد على كفر القذافي صارت من لغة الأطفال. فما الفرق بين شيخ يدافع دفاعا مستميتا عن طاغية وأخر كالشيخ أسامة القوصي يجيز حق الكافر بالولاية على المسلم؟ وما الفرق بين القذافي وهؤلاء في تشريع سفك الدماء؟
إذن ليس غريبا على أمثال هؤلاء، أو على مثل هذه الشخصية، التي تتعالى على الله عز وجل، أن تضع الشعب الليبي بين خيار الموت أو خيار طاعة ولي الأمر، حتى لو كان كافرا أو رفضه كل الشعب، وكل المسلمين، وكل العالم. ولا ريب، بحسب حديث الخلافة، أن هذا النوع من الخلافة لا يمكن أن يكون إلا حكما جبريا. ولعل الله عز وجل، من عظيم رحمته بالأمة، أن يهديها إلى ماهية الملك الجبري، وكيف يكون حقيقة واقعة .. متجسدة في صورة القذافي. وهكذا ربما تكون صورة الثورة الليبية هي إحدى آيات الله وبشائر رحمته بهذا الشعب المنكوب بالقذافي، فضلا عن أنها بشائر يتحقق بها الحديث والله أعلم.
خلاصة القول
إذن الدورة الحضارية للغرب تمثلت ب:
• الاستعمار المباشر لكل الأمة وليس لجزء منها. استعمار فكك بلاد المسلمين، وأنهى نظام الخلافة، وأرسى نظم الاستبداد والظلم والقهر، التي تدور في المركز دون انقطاع أو خروج عنه. نظم خارج أية مساءلة من أية مرجعية كانت إلا من الغرب ذاته.
• استمرار الاستعمار غير المباشر الذي حافظ على نهب الثروات والموارد، ونقلها إلى المركز ليمنع الأمة من الانتفاع بها.
• محاربة الإسلام والمسلمين وتشويه عقيدته ومسخ ثقافتهم وشخصيتهم وإبقائهم تحت السيطرة الدائمة.
أما الدورة التاريخية للأمة ممثلة بالثورات العربية فإن أبرز مضامينها الأولى:
• استهداف نظم الطغيان بشتى صورها ومحتوياتها. ففيما مضى كانت الأمة تترقب موت هذا الزعيم أو ذاك طوال عقود، عسى أن يأتي من هو خير منه. لكنها اليوم تبادر بنفسها لإنجاز مهمة الخلع، للطغاة ولكل المنظومة المتعلقة بهم.
• ملاحقة النظم ومحاسبتهم، بدء من رأس الحكم وانتهاء بكل من دار في فلكها أو دافع عنها وشرع لها.
• الإصرار على استعادة ثروات الأمة المنهوبة، وكذا الموارد، والأموال غير المنقولة، التي استحوذ عليها النظام عنوة.
يبقى القول أنه إذا استمرت الثورات الشعبية على نفس الوتيرة، أو اشتد عودها، وتجذرت مطالبها، ونجحت في تحقيق هذين المطلبين فالمؤكد أن الدورة التاريخية ستتجه نحو دورة حضارية جديدة للإسلام وليس للعرب فقط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.