اهتمت أجهزة سيادية أمس بتسويق فرضية تقول أن خروج الدكتور حازم الببلاوي من الوزارة كان إقالة وليس استقالة ، وأن الببلاوي كان يعلم بخبر إقالته قبلها بيومين ، وقامت عدة صحف ومواقع بنشر هذه الإشارات بصورة فيها إلحاح فج ومقصود ، وهذا تأكيد لما قلته بالأمس من أن استقالة الببلاوي كانت مفاجئة ، وأربكت المشهد بالفعل وأحرجت المشير السيسي والمؤسسة العسكرية وأحرجت المستشار عدلي منصور الرئيس المؤقت ، الببلاوي كان مدركا أن "الأجهزة" تبيعه ، وتتعمد التشهير به وتحميله مسؤولية الفوضى الاقتصادية والانفلات الأمني والاضطراب المجتمعي لإبعاد الأعين وسهام النقد عن الشخصية القوية التي تدير المشهد ويعرف الجميع ، داخل مصر وخارجها ، أنها تدير المشهد من وراء الستار ، تحمل الببلاوي كثيرا ، وقرر في النهاية أن يحرج الجميع وأن يقرر بنفسه وليس بقرار غيره وقت خروجه من الوزارة بكرامته وباستقالة ، وهو الأمر الذي حاولت "المؤسسة" تشويهه وسحبه لإظهار أنه خرج مطرودا ومقالا ، ولن يمضي وقت طويل قبل أن يفضي الببلاوي بالضغوط والإحراجات التي تعرض لها في الأسابيع الأخيرة ، لأن "الجماعة" قلبوا عليه . الحكومة الجديدة لن يكون فيها أي وجه من الوجوه التي لها أدنى صلة بثورة يناير ، ولا الوجوه التي كانت لها مواقف معارضة من نظام مبارك ، ليس قربى لنظام مبارك ، وإنما إبعادا لأي شخصيات يكون لها قرار مستقل وشخصية تتخذ القرار ولها كرامة سياسية أو تاريخ سياسي تخاف عليه ، هم يبحثون عن خدم وسكرتارية لأصحاب السلطة الحقيقية ومنفذين للأوامر والتعليمات بشكل حرفي دون الخروج عن النص المقرر ، هي إعادة انتاج لنفس المنظومة التي حكم بها مبارك من دون وجود مبارك وأولاده ، بل إن بعض وجوه نظام مبارك ومنظومته سيتولون قيادة الحكومة الجديدة ، حيث تتجه الأمور حتى كتابة هذه السطور نحو تكليف المهندس إبراهيم محلب بتشكيلها ، وهو عضو لجنة سياسات جمال مبارك وأحد أصدقائه المقربين ، كما أنه هو الشخص ذاته المتورط في أعمال خاصة خارج إطار القانون لصالح مبارك وأسرته ما زالت التحقيقات القضائية بشأنها جارية . تتجه الأنظار إلى موقع وزير الدفاع في الحكومة الجديدة ، وهل سيتم تكليف المشير عبد الفتاح السيسي به أم لا ، باعتبار أن ذلك سيكون مؤشرا على السيناريوهات المتوقعة لانتخابات الرئاسة ، فإذا تم تكليف السيسي بالوزارة فسيكون هذا مؤشرا قويا إلى أن الرجل يتجه إلى الانسحاب من فكرة الترشح والاحتفاظ بمنصبه المحصن دستوريا لثماني سنوات على الأقل ، كوزير للدفاع والقائد العام للقوات المسلحة ، وأما إذا لم يتم تكليفه فإنه يكون بطريقه إلى إعلان ترشحه للرئاسة بكل تأكيد ، وفي تقديري أن السيناريو الأول هو الأوفر حظا الآن من حيث المؤشرات ، لأن اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة أمس لم يتمخض عنه أي قرارات جديدة أو جوهرية ، وهو ما يؤشر إلى بقاء السيسي قائدا عاما للجيش ووزيرا للدفاع في الحكومة الجديدة ، لأن مشاورات الحكومة بدأت بالفعل من أمس ، والبديهي أن يسبقها قرارات للمجلس العسكري لترتيب أوضاع المؤسسة وقيادتها قبل الخطوة الكبيرة ، أما وقد تجاهل المجلس أي تغييرات ، فهذا يعني أن السيسي باق في منصبه ، وهذا يعني أن المفاجأة التي تفزع كثيرين من أنصار المشير أصبحت أقرب من أي وقت مضى ، وربما تفيق مصر خلال أسبوعين على صدمة اعتذار السيسي عن الترشح للرئاسة . الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها مصر والتي ستتفجر خلال الصيف المقبل بشكل أكثر إثارة لغضب الرأي العام ، خاصة في مجال الكهرباء والطاقة ، وارتهان الاقتصاد المصري الهش لأنبوب خليجي محدود يمثل ما يشبه أجهزة التنفس الصناعي ، ورفض أصحاب هذا الأنبوب لفكرة ترشح السيسي لأسباب متعددة بما يهدد إمكانية استمرار الدعم ، كما أن هذا الأنبوب لا تبعد مفاتيحه عن تأثير الموقف الأمريكي بشكل عام ، وتورط مصر في الملف السوري على النحو الذي تسرب مؤخرا ويمثل طعنة للأمن القومي السعودي في صميمه ، واضطراب روسيا في الملف الأوكراني وهزيمة مشروعها بإنقاذ النظام الموالي لها من الثورة الشعبية ، وهي الحليف البديل الذي يفكر في الارتكان عليه ، وظهور بوادر مواجهة أمنية وعسكرية طويلة الأمد مع منظمات إرهابية يتزايد نشاطها في البلاد مؤخرا وتمثل إحراجا متزايدا للدولة والمؤسستين العسكرية والأمنية ، مع تزايد مساحة الغضب والمعارضة للمشير السيسي ودور المؤسسة العسكرية في كتل شعبية وسياسية عديدة ، كثير منها كان حليفا سابقا للسيسي قبل أشهر قليلة ، وتعقد ملف المصالحة الوطنية مع أنصار الرئيس السابق محمد مرسي مع استمرار الاحتجاجات والتكلفة السياسية والأمنية والاقتصادية والحقوقية والقضائية العالية لاستمرار هذا الجرح مفتوحا بمواجهاته القاسية ، يضاف لذلك تململ مراجع مالية ضخمة من رجال أعمال النظام السابق من أفكار السيسي ونواياه ووقوع أكثر من صدام غير معلن بينهم وبين "الأجهزة" في مشروعات خاصة بعضها إعلامي ينذر بمواجهات مستقبلية قاسية ، كل هذا المزيج المقلق والمخيف يضغط بقوة على المؤسسة العسكرية ذاتها ، كما على المشير السيسي ، ويجعل من فكرة ترشحه مخاطرة ، ليس مخاطرة باسمه فقط ، وإنما مخاطرة بالجيش نفسه ، في المقابل يدرك السيسي والمؤسسة أن حملات دعمه وتأييد ترشحه أصبحت تتقلص لتنحصر في قوى شعبية هامشية وإن كانت زاعقة إعلاميا ، ونخب فنية وثقافية محدودة ولا تملك أي جذور شعبية ، وبعض فلول نظام مبارك ومخاوف طائفية ترى في توليه الرئاسة حماية من مخاطر محتملة . الملف معقد للغاية ، والسيسي تأخر في اتخاذ قراره قلقا من خطورته ، وبسبب غياب اليقين والرؤية الواضحة الحاسمة ، وليس لأي تكتيك آخر مزعوم ، هو كان يرتب للترشح بالفعل ، ولا يوجد من في مركزه ومسؤوليته من يقترب منه المنصب ويدير له ظهره ، ولكن تطورات الأحداث ربما جعلته يعيد النظر جذريا في القرار ، .. والله أعلم .