شهد يوم الجمعة الخامس والعشرين من فبرايرالجارى مظاهرات حاشدة فى ميدان التحرير تطالب بمحاكمة الرئيس المخلوع حسنى مبارك.. ورحيل حكومة أحمد شفيق.. و يبدو أن الثوار قد بدأوا يستشعرون خطرأ مَا يهدّد الثورة، وأن مصدر هذا التهديد يتمركز فى حقيقة التّلازم بين عنصرين..هما: الرئيس المخلوع القابع فى شرم الشيخ، والحكومة التى قام هو بتعيين رئيسها.. ومنطق الأمر يجرى على هذا النحو: الرئيس المخلوع لا يزال فى مكمنه لم يطلْه ما طال بعض أفراد نظامه الفاسد من اعتقال وإحالة إلى المحاكم للتحقيق فى التهم الموجهة إليهم، بما فى ذلك محاولة تجميد أموالهم فى الداخل والخارج على السواء.. هذه واحدة.. اما الثانية فتتمثل فى فى استمرار وجود حكومة أحمد شفيق.. ومحاولة ترقيعها بدلا من إلغائها .. استجابة لمطالب الشعب .. وأمام هذا الموقف يجد الإنسان نفسه فى مواجهة لغز يجعله يُمْعن التفكير فى عدد من الخيوط.. إذا تتبّعها مُثَابرًا لا يملك إلا أن تساوره شكوك بأن هناك محاولة للالتفاف على ثورة الشعب، أبرز معالمهاا: تمييع المواقف بالمماطلة.. وتجزئ القضايا الأساسية الكبرى إلى قضايا فرعية.. وتشويش الوعى بعيدا عن القضية الأساسية بمواصلة الانتهاكات إلى مالانهاية.. لاستنفاذ الطاقة الثورية وتفريغها فى معارك جانبية.. دعنا الآن ننظر فى تطبيقات هذا التكتيك التجزيئي على واقع الأوضاع فى مصر ، ولنحلل معا بعض الوقائع الدالة على ما نعتقد أنه الحقيقة: قيل على لسان أحد المسئولين الكبار فى لقاء متلفز: أن حسنى مبارك مواطن مصرى ولا يستطيع أحد أن يقول له [ إرحل ] .. وقد يقال أن هناك التباس فى معنى الكلمة بين إرحل من السلطة، و إرحل من البلاد.. وسوف أسلّم بهذا.. ولكنى أتساءل: إذا كان حسنى مبارك هذا مواطنا مصريا.. وقد ارتكب فى حق شعبه ووطنه جرائم كبرى على مدى ثلاثين عاما .. أليس من حق الشعب أن يطالب بتقديمه للمحاكمة ...؟! إن الشعب مجمع على أن هذا الرجل قد أفسد كل شيء فى مصر: الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ومن حق الشعب أن يقول له: أنت متهم بتزييف إرادة الشعب فى كل الانتخابات البرلمانية التى جرت فى عهدك التعس.. وأنت متهم بنهب ثروة البلاد أنت وأسرتك وبطانتك.. وأنت متهم ببيع ممتلكات الدولة فى القطاع العام بتراب الفلوس.. وبعت أراضى الدولة للمحاسيب بتراب الفلوس .. وأنت بعت بترول مصر وغازها لأعدى أعداء الأمة وبتراب الفلوس أيضا.. وأنت مسئول عن آلاف المسجونين السياسين ظلما.. وآلاف القتلى فى حوادث الإهمال المروّع لإدارتك .. ومئات الشهداء وآلاف من الجرحى الأبرياء الذين سقطوا فى المظاهرات السلمية يطالبون بحقوقهم المشروعة فى تغيير النظام.. من حق الشعب أن يقول له كل هذا وأكثر وأن يأتى به من حيث يختبئ.. ويقدّمه لمحاكمة عادلة أمام القضاء شأنه فى ذلك شأن أى مواطن مصري مذنب.. *** كلما تمدّد الوقت كلما أتيحت الفرصة أكثر لإخفاء الحقائق وتبديد الوثائق التى تدين رءوس الإجرام والنهب والفساد: أبو الغيط يحرق وثائقه فى وزارة الداخلية .. وأسامة سرايا يهرّب وثائقه خارج مبنى الأهرام حتى لا تقع فى أيدى المحققين.. ويحدث هذا فى وزارة الداخلية وفى أماكن أخرى كثيرة الآن لطمس معالم الفساد والنهب التى تدين أعدادا كبيرة من العصابة الكبيرة التى سادت مصر ثلاثين سنة ماضية.. كلما تمدّد الوقت تتّسع الفرصة للتلاعب بالأموال المنهوبة ونقل ملكياتها لأسماء أخرى.. وأنا شخصيا لا أستبعد أن تُنقل بعض هذه الأموال إلى حسابات فى إسرائيل.. حيث يستحيل على أحد أن يصل إليها.. وتلك وظيفة أخرى للتسويف.. واكتساب الوقت .. ************ المنعطف الثوري الخطير: إن الثورة المصرية تقف على منعطف خطير يحتاج فى مواجهته إلى نقلة نوعية من الحسم وإعمال الخيال الثوري الذى اتسمت به عبقرية هذه الثورة منذ انطلاقتها الأولى فى الخامس والعشرين من شهر ينايرالماضى.. فماذا تحتاجه الثورة فى هذه المرحلة..؟: أولا: يجب أن يُجرى الثوار[بأنفسهم] عملية اختيار الحكومة الانتقالية المؤقتة.. بالتواصل المباشر مع الجماهير الشعبية فى قلب ميدان التحرير.. فميدان التحرير أصبح هو برلمان الشعب الكبير المفتوح .. ثانيا: على المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسئولية وطنية وتاريخية لحماية هذه الحكومة ومساعدتها فى تنفيذ ما تتخذه من قرارات وإجراءات.. ثالثا: لا بد أن يستقر فى وعى الجميع أن ميدان التحرير بحشوده المليونية يوم الجمعة ليس مجرد ساحة أو "هايد بارك" لحرية الكلام والتعبير، وإنما هو يمثل الشرعية الشعبية الوحيدة فى البلاد.. لا بد أن أن ندرك القيمة الحقيقية لهذه الحشود المليونية فهى، فى واقع الأمر، ظاهرة فريدة، و حدث هو الأول من نوعه فى تاريخ العصر الحديث .. ولكنه فى الوقت نفسه ليس ظاهرة غريبة عن روح الإسلام فى مرحلة تدفّقه الثوري الأولى .. وأنا أقصد على وجه التحديد ما حدث فى سقيفة بنى ساعدة.. بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عندما اجتمع المسلمون من المهاجرين والأنصار لاختيار أول خليفة للدولة الإسلامية.. حيث استقر رأى الأغلبية على اختيار أبى بكر الصديق بعد مناقشات وعرض لوجهات النظر والآراء المختلفة.. ولم يكن المسلمون فى هذا المسلك الثوري الرائع يبتدعون.. إنما كانوا يتبعون نفس النمط من التشاور الجماهيري العلنى الواسع الذى مارسه الرسول نفسه فى حياته.. كما تجلّى واضحا عندما قرر مع المسلمين أن يخرجوا من المدينة إلى جبل أحد لملاقاة جيش المشركين الزاحف إليهم من مكّة .. [email protected]