أشهر من نار على علم فى قريتنا ، ننتظره عصر كل خميس بفارغ الصبر على مشارف القرية ، ونزفه طوال جولته المعتادة من زقاق إلى زقاق ، حيث يقف مصطحبا قرده ليطلعنا على آخر حركاته ومفاجآته التى يأمر قرده فيأتى بها ، نط ياقرد .. أقعد .. إعمل بطل .. إعمل دكر .. نام نوم العازب ، اضرب تعظيم سلام ، ورينا مشية شيخ البلد .. فيهرع القرد مطيعا للأوامر ، ليس مبديا مهارته فى ذلك ، وإنما هلعا وخوفا من سعدون ، ويبدو ذلك على ملامح وجهه المرتجف ، فهو فور تنفيذ الأمر تبدو منه نظرة سريعة لوجه سعدون ليقرأ فيه رضاه عن حركته أو عدم رضاه ، فإن اطمأن للرضى منه التفت للجمهور الملتف حوله ليشحذ منه لقمة أو قطعة برتقال أو أى شىء يدخل جوفه ولو شربة ماء . كان سعدون فى آواخر الأربعينات من عمره ، إلا أنه كان يحاول أن يبدو فتى مراهقا ، فكان يصبغ شعره ويلمعه بالفازلين ، حيث كان يختلس النظر بين الفينة والأخرى إلى بنات القرية اللائى يعجبن بالأوامر الحاسمة التى يصدرها للقرد ، ويصفقن له حين يطيعه القرد بلا تردد ، وكان سعدون يشعر بهذا الإعجاب فيتمادى فى إعطاء الأوامر للقرد ويتفنن فى إذلاله و"مرمطته" ليدخل قلوب النساء الحسان أكثر وأكثر .. حتى أننى أيقنت أن سعادة سعدون ليست بما يربحه من مهنته كقرداتى ، وإنما تكمن سعادته فى استمتاعه بالسلطة التى حصل عليها ويفرضها على مخلوق من خلق الله،حتى ولو كان قردا يربطه بسلسلة .. كان ذلك منذ سنوات طوال ، وكان يشغلنى وقتها أمران منعا النوم كثيرا عن عينى ، أولهما كيف لهذا السعدون التافه ضعيف البنية القدرة على التحكم التام فى الحصول على طاعة هذا الحيوان الذى يبدو قويا متعافيا رغم خنوعه وخضوعه وذله،، والأمر الآخر هو لماذا يتعمد سعدون أن يختار طعاما واحدا لغدائه ، عبارة عن دجاجة كاملة يجلس فى صحن القرية يأكلها بنهم ولا يعطى القرد سوى عظامها وقطعة خبز صغيرة ..ومنعنى الخجل أن أسأل سعدون بشأنهما ، إلا أننى فى نهاية الأمر قررت أن أستجمع شجاعتى وأواجه سعدون بسؤالى هذين ولو كلفنى ذلك أن أدفع لسعدون ثمن الشاى والمعسل فى غرزة عم مبروك . سألت سعدون عن هذه السلطة المطلقة التى يمتلكها فيحرك القرد كيفما شاء ، دون خوف من بطش هذا الحيوان خاصة وأن حجم القرد يفوق حجمه شخصيا ، ولياقته البدنية وقوة عضلاته قد تجبر سعدون يوما على أن يتبادل مع القرد الهوية ، فيصبح سعدون هو المطيع الذليل والقرد هو السيد الآمر الناهى ،وربما أكثر من ذلك فتجبر سعدون على التقاعد أو يلقى حتفه لو فكر القرد فى فارق الحجم بينهما .. وعن سر اللقيمات التى يمنحها له رغم أنه يجلس أمام القرد ليأكل دجاجة كاملة لا يعطيه منها إلا الفتات ، فمن الرحمة إن أراد أن يحرمه منها أن يأكلها بعيدا عن القرد حتى لايراه فيتألم ويزداد جوعه جوعا .. اعتدل سعدون فى جلسته ليبدو حكيما محاضرا ،وبدت ملامح الصرامة والجدية على وجهه وارتجفت نبرات صوته وهو يحكى لى عن القرد والقرداتى .. لما اشترى سعدون القرد صغيرا كان واجبا على سعدون أن يبدأ فورا فى الدرس الأول للقرد ، فيربطه فى حوش المنزل بسلسلة غليظة ، ولا يمنحه شيئا من عطف أو رحمة ، فلا شىء فى الدروس الأولية للسيطرة يدعى الرفق بالحيوان أو شىء من هذا القبيل ، وإنما هو عنف وقمع وإثارة الهلع لدى القرد ، ثم يبدأ فى إعطاء الأوامر للقرد الذى لن يستجيب لها بالطبع لأنه لا يدرى ماهى حيث لايفهمها .. وما على سعدون إلا أن يحضر أرنبا صغيرا يتركه يجرى حول القرد ، ثم يربطه بسلسلة تشابه السلسلة المربوط فيها القرد ليشعر القرد بأن السلسلة واحدة ، والسجن واحد ، فالأرنب سجين مثله ، ومصيرهما وقدرهما واحد ، وتنهمر الأوامر من سعدون على الأرنب الذى لا يحرك ساكنا ، فيكيل له سعدون الشتائم والضرب ، ويكرر الأوامر والسب والضرب على الحيوانين سواءا .. حتى يتعالى صراخهما معا ، ويضيق المكان بهلعهما ورعبهما معا ، حتى تأتى اللحظة الحاسمة فيستل سعدون سكينا ضخما لامعا من بين طيات ملابسه ويرفع سون الأرنب من قفاه عاليا تتابعه عيون القرد المرتجفة ويمر بسكينه اللامع ليقطع رقبة الأرنب المسكين فتتدفق دماؤه وتتطاير على ثوب سعدون وجسد القرد ويتعالى الصراخ فى المكان حيث يعلو صراخ القرد فوق صراخ الأرنب المذبوح الذى لايلبث إلا ويخفت صوته رويدا رويدا بينما يستمر صراخ القرد الذى نقشت دماء الأرنب دروس الطاعة المطلقة فى ذاكرته حينها يوجه سعدون أوامره للقرد مهددا بسكينه ، وإذا بالقرد ينفذ الأوامر تنفيذا دقيقا لن ينساه متى عاش . ويعيش القرد حياته ذليلا مربوطا بسلسلة غليظة ، منتظرا الأوامر ولقيمات ضئيلة تكفى حركته ولاترضى معدته ، وإمعانا فى الإذلال والتحدى يأكل سعدون الدجاجة كاملة أمام القرد الجائع الذى يكتفى بشىء من الخبز ، فالجائع صاحب هم ، والهم والجوع يضعفان الإرادة ، ويعرف القرد أن هناك فرق بين السيد والعبد ، حتى ولو كان ذلك العبد قويا متعافيا عن سيده .. لا أدرى لماذا تذكرت سعدون الآن ...