بداية أقدم التحية للشهداء الذين سقطوا في ثورة الحرية والكرامة في مصر، وللشرفاء من المصريين - الشباب والشيوخ والنساء والأطفال- الذين نزلوا إلى الشوارع بالملايين في كل المدن المصرية، وللشعب العربي الشقيق في تونس الذي أثبت للمصريين أنه بالإمكان أن ينتصر الشعب على الإستبداد. فيما يلي ملاحظات سريعة على الحدث الإستثنائي، بعضها موجه لشباب الثورة وجماهيرها وبعضها الآخر موجه للنخب السياسية: الثورات تحتاج إلى نفس طويل ما يحدث في مصر –ولم يفهمه مبارك حتى اللحظة- هو ثورة شهدتها دول كثيرة في شرق أوروبا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا، ثورة لها معالم معروفة: سياسات وممارسات خاطئة تؤدي إلى تراكم الغضب الشعبي فإلى تظاهرات واحتجاجات غاضبة، تؤدي بدورها إلى انفجار شعبي وإنفلات أمني وسقوط ضحايا أبرياء ونهب وحرق للمتلكات العامة والخاصة، فإلى انهيار النظام الإستبدادي ثم البدء في في بناء نظام ديمقراطي جديد. وثورة مصر هذه ثورة إصلاحية بيضاء حتى الآن، وقد تم التمهيد لها والقيام بعمليات التعبئة من قبل أطراف كثيرة على رأسها الحركات الاحتجاجية والشبابية كشباب 6 أبريل والجمعية الوطنية للتغيير وكفاية والحملة الشعبية لترشيح الدكتور محمد البرادعي وغيرها من أحزاب وقوى سياسية. أما تشبث الرئيس مبارك بالسلطة حتى اليوم - برغم المسيرات المليونية - فأمر طبيعي ومارسه حكام شموليون من قبل. ففي حالات مماثلة لا يتنازل الحاكم الشمولي بعد أيام معدودة من انتفاضة الشعب، وهو يستخدم كل أوراقه محاولا الإلتفاف على الثورة وكسب الوقت من أجل البقاء بما في ذلك إحراق البلاد وإرتكاب كل أنواع العنف وقمع الإعلام. ولهذا لا يمكن تصور أن الوعود التي أطلقها مبارك في كلمته ليل الأول من فبراير وعود حقيقية، فالرجل في الحكم منذ نحو ثلاثين عاما، كما أن أنصاره يستخدمون – بشكل مخطط مسبقا - كل أعمال البلطجة والعنف ضد المتظاهرين العزل في ميدان التحرير بالقاهرة، وهذه جريمة ضد مدنيين يعاقب عليها القانونين المصري والدولي. لكن الأهم هو موقف المؤسسة العسكرية في الثورات المشابهة. لقد كان انحياز الجيش إلى المتظاهرين (أو انقسامه) عاملا حاسما لانتهاء الحكم الشمولي وذلك كما حدث في الفلبين والسودان وقرقيزيا وغيرها. ولهذا على المؤسسة العسكرية المصرية إدراك أنه لا وقت للوقوف على الحياد بعد اليوم. الملايين من المصريين يطالبون برحيل مبارك، والجيش هو الطرف الوحيد الذي يحول دون ذلك لأن مبارك يعيش في حمايته. وفي اعتقادي لا يجب أن يتحمل الجيش المصري تدهور الاوضاع في مصر واستخدام العنف والبلطجة ضد المدنيين واحتراق البلاد. لكن، وكما تشير حالات أخرى، تحرك الجيش في هذا الإتجاه وتفهم الرئيس لطبيعة الثورة وتنحيه يعتمدان، إلى حد كبير، على إستمرارية ضغط الشارع والأهم تحرك النخب السياسية نحو بلورة قيادة معارضة ديمقراطية تقود الشارع ولا تنقاد له. النخب تقود الثورة ولا تنقاد لها لابد أولا أن تدرك كل القوى الوطنية أن إنهيار النظم الشمولية عن طريق ثورة الشعب هو السيناريو الأكثر خطورة والأعلى تكلفة لإحداث الانتقال الديمقراطي الحقيقي. فبجانب التكلفة البشرية والمادية للثورات، فإن الخوف الحقيقي هو أن تختلف النخب المعارضة قبل وبعد سقوط النظام، ومن ثم تُفوت فرصة حقيقية لإحداث انتقال ديمقراطي حقيقي، تماما كما فوتت من قبل مسار آخر أكثر سلمية بالعمل على إنشاء جبهة معارضة ديمقراطية (أو كتلة تاريخية ديمقراطية) تضغط على الحاكم الشمولي وتُجبره - بمحورية أهدافها وتجاوزها لتناقضاتها الإيديولوجية - على التنازل والتفاوض على الانتقال السلمي التدريجي كما حدث في بولندا وجنوب أفريقيا ودول لاتينية وأفريقية أخرى. وتمامًا كما فوّت الرئيس مبارك عدة فرص لانتقال آخر سلمي من أعلى باستجابته الحقيقية لمطالب التغيير وقيادته هو لعملية الإصلاح السلمي التدريجي نحو الديمقراطية كما حدث في إسبانيا والبرازيل مثلا. هناك خطورة حقيقية في مصر من أن يقود الشارع النخب، وتتخبط النخب وراء أهداف متفرقة ومتضاربة، فتتفرق بها السبل وتتعدد الجهات التي تريد الظهور على الساحة. في مصر فرصة تاريخية للانقاذ واستغلال الفرصة التاريخية التي صنعها الجماهير في أيام معدودة وبثمن غير مرتفع نسبيًا مقارنة بثورات أخرى أكثر دموية. هذه الفرصة تحتاج إلى ارتفاع النخب السياسة المعارضة إلى مستوى المسؤولية، وتشكيل كتلة وطنية تقوم بعدد من المهام وتوعية الشباب الثائر بها: 1- التوافق حول قيادة وطنية توافقية – أو لجنة من عدد من القيادات – تعبر عن حقيقة الثورة المصرية وتقوم بتمثيل الشباب الثائر وكسب ثقته ثم قيادة الشارع - بدلا من الإنقياد إليه - وتوجيه الإحتجاجات نحو هدف مركزي هو بناء نظام ديمقراطي حقيقي، وضد عودة الدكتاتورية أو تلاعب الغرب بمستقبل البلاد. وهذا الدور محوري لأن الشارع بمفرده لن يكون بمقدوره القيام بهذا الدور إما لتنوع التيارات الموجودة بالشارع وصعوبة تصور اتفاقها على وسائل الوصول إلى الهدف المشترك، وإما لسهولة اختراق هذا الشارع وظهور أفكار متناقضة بين صفوفه. وفي النهاية دور الشارع هو الضغط فقط أما استخدام هذا الضغط من أجل الوصول إلى الهدف المركزي فهو عمل سياسي يحتاج إلى سياسيين واعين. 2- وهنا لا يجب أن تفكر النخب بعقلية ما قبل 25 يناير. إننا إزاء ثورة قامت ليس من أجل مجرد نقل صلاحيات الرئيس لنائبه وإنما من أجل مطالب لابد من التمسك بها وهي: عدم ترشح الرئيس أو إبنه في الانتخابات القادمة (تحول هذا الهدف إلى رحيل الرئيس بعد استخدام العنف وقتل العشرات من المتظاهرين العزل في 25 و28 يناير 2011) – حل البرلمان بمجلسيه – إلغاء حالة الطوارئ – تشكيل حكومة وطنية تُمهد الطريق لجمعية تأسيسية تضع دستورًا جديدًا، ثم تُجرى انتخابات ديمقراطية على أساس ديمقراطي جديد. 3- ولهذا لا يجب أن تتحاور النخب حول هذه المطالب وإنما يجب أن تتفاوض من أجل تحقيقها. ولا يجب أن تُصور العملية على أنها عملية احتجاج على الرئيس فقط وهناك لجنة تحاول الوساطة. سقف المطالب في حالات مشابهة كان يرتفع مع تصاعد ضغوط الشارع، وكانت النخب تقود الجماهير ولا تنقاد له. على النخب الحالية أن تتذكر أن هدف الشباب والجمعية الوطنية للتغيير كان تغيير المعادلة القديمة وليس تغييرالرئيس مبارك، فلم يكن مطروحا المطالبة بتغيير الرئيس قبل 25 يناير، بل كان من الممكن أن يستمر الرئيس لو استجاب للمطالب سالفة الذكر يوم 25 يناير. 4- وتنحي الرئيس يعني سقوط النظام والدستور معا، لأن ما كان قائما هو نظام فردي مشخص، يتلاعب فيه الرئيس بالدستور من أجل البقاء والإستمرار. أما معادلة ما بعد 25 يناير فهي أن الجيش هو الذي يسيطر على مقاليد الأمور وهو الذي يحمي شخص الرئيس الذي فقد شرعيته بتظاهر الملايين ضده. ومن هنا فأي تفاوض لابد أن يكون من خلال حكومة انتقالية تمثل فيها كافة القوى الوطنية والمؤسسة العسكرية، ويكون التفاوض حول المطالب التي رفعت من قبل: حل البرلمان، رفع الطوارئ، وجمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. 5- وليس من الحكمة أيضًا فتح ملف المحاكمات وملف الفساد الآن، وإنما يجب التركيز الآن على الأهداف سالفة الذكر، لأن فتح هذه الملفات سيثير الكثير من أصحاب المصالح في النظام ويخلط الكثير من الأوراق التي ليس الآن وقتها. 6- كما يجب أن تقوم النخب السياسية بترميم العلاقة بين جهاز الشرطة وبين المواطنين فورا وتوعية المتظاهرين بخطورة استهداف هذا الجهاز. فجهاز الشرطة جزء لا يتجزأ من الشعب، ولابد من العمل على إعادة تنظيم الجهاز على أسس سليمة تعيد الأمن إلى دوره الوطني الطبيعي في حماية الأمن وخدمة الشعب. وقد يحتاج هذا إلى طرح تعديل قانون الشرطة وكل القوانين التي تقحم الأمن في السياسة. ويجب تذكر أن بعض قوات الأمن استخدمت من قبل النظام الشمولي كأداة للقمع والسيطرة، مثلها مثل فئات أخرى تم استخدامها ضمن استراتيجيات البقاء كبعض رجال الأعمال وأساتذة الجامعات والإعلاميين والصحفيين والمثقفين بل وبعض نخب المعارضة ذاتها. * أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net