الأمية هي الجهل بأبجديات المعرفة في شأن من الشؤون ، وهي تطلق بالأساس على الجهل بمبادئ القراءة والكتابة ، ولكن الأمية تتمثل أيضا في الجهل بمبادئ أي علم أو شأن من شؤون المعرفة والحياة أيضا ، فهناك الأمية الدينية ، وهناك الأمية السياسية ، وقد يكون هناك من هو خبير وعالم في شأن من الشؤون العلمية الدقيقة بينما هو أمي في شأن آخر ، كما هو ملاحظ في الشأن الديني مثلا ، فقد تجد جراحا كبيرا أو جيولوجيا فذا ، إذا تحدث معك في شأن ديني اكتشفت أنه شديد الجهل والسذاجة في المعرفة بأوليات الدين وقواعده ، فهو "أمي" في الوعي الديني ، غير أننا هذه الأيام نقف أمام الظاهرة الجديدة وهي "الأمية السياسية" . والأمية السياسية تتلخص في الجهل الشديد بالشأن العام والقوانين الحاكمة لإدارة الدولة وصناعة القرار وأدوات إدارة الصراع السياسي ، وتبدو الأمية السياسية أكثر بروزا في المجتمعات التي عاشت ردحا طويلا في أجواء الاستبداد والتهميش والقمع الإعلامي ، حيث يكون المواطن مغيبا عن الشأن العام ومعزولا عن مدارات صناعة القرار السياسي ومهمشا عن المشاركة السياسية الحقيقية بكل مستوياتها ، ولأن إعلام النظم المستبدة يكون أكثر حرصا على ترسيخ الأمية السياسية ، لأنها الضمانة الحقيقية لبقاء الاستبداد وتحصين الطغاة من وعي الشعوب ومن ثم شل قدرتها على انتزاع حقوقها أو حماية مصالحها أو النضال من أجل المشاركة في صنع القرار . والأمية السياسية يمكن أن تجدها في عالم دين بارز أو داعية له تاريخ طويل من الجهد التعليمي والدعوي في مجال العلوم الشرعية ، لكنه في وعيه السياسي يبدو شديد السطحية والسذاجة أو باختصار "أمي" في فهمه للشأن العام ، وهؤلاء يسهل كثيرا على الطغاة الاستفادة من "أميتهم السياسية" في التخديم على قمع الشعوب أو تحصين هيمنتهم على الشعوب ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ولن يعدموا في هذه الحالة أن يستحضروا من الآيات والأحاديث والعظات ما يوضع في غير مجاله ولا قضيته ولا زمانه ، هذا فيمن يكونون أكثر نقاءا في داخلهم وليسوا مستأجرين ، وإن كان الطغاة عادة لا يعدمون الحصول على خدمات بعض "المستأجرين المحترفين" في بيع الفتاوى والآراء المنسوبة إلى الدين ، من المنتسبين إلى العلوم الشرعية وهم يقدمون خدماتهم للاستبداد عن وعي كامل وإدراك كامل ، مقابل أجر من وظيفة أو مغنم أو هبة . الأمية السياسية أيضا يستخدمها الإعلام الرسمي للمستبدين في تضليل الناس وخداعهم وصناعة صورة مزيفة لقضايا الشأن العام ، مثل الحملة التضليلية التي شنها إعلام نظام مبارك ضد انتفاضة الشعب المصري ، ووصفها بأنها تمثل أقلية ، لأن من خرجوا في الاحتجاجات لا يتجاوزون بضعة ملايين فأين هم الخمسة وثمانون مليون مصري الباقين ، لأن صناعة التحولات التاريخية وفرض إرادة الشعوب إنما يمثلها شريحة فاعلة وواعية وصاحبة إرادة وجسارة ، وهم الذين يخرجون إلى الشارع في تحدي الاستبداد والقمع ، وفي العادة يمثل الواحد من هؤلاء العشرات غيره من الذين يعجزهم الخروج إما لخوف أو تردد أو إحباط ، ولكنه مؤمن بالقضية التي من أجلها خرجوا ، بل إن المشروعية السياسية للنظام السياسي كله أحيانا تتشكل بمثل تلك النسب الفاعلة البسيطة ، والرئيس مبارك نفسه فاز برئاسة الجمهورية في آخر دورة رئاسية بستة ملايين صوت ، وإذا اعتبرنا أنه حصل عليها كلها بدون تزوير وهذا غير متصور ، فإن الرقم الذي حصل عليه لا يتجاوز نسبة 8% (ثمانية في المائة) من مجموع سكان مصر ، وهي نسبة شديدة التواضع ، ولكنها منحته شرعية رئاسة الدولة ، وقد شهد العالم كله أن من خرجوا في جمعة الغضب التي شملت مصر من أقصاها لأقصاها وصلوا إلى ثمانية ملايين مواطن ، أي أنهم أكثر من عدد من منحوا أصواتهم لمبارك وحصل بها على شرعية رئاسة الدولة . [email protected]