أقسم أن هذا الرجل د. نظمي لوقا ظلم حيا وميتا عن عمد مع سبق الإصرار والترصد, فأنت لو سألت أحدا عن هذا الفيلسفوف المصري الذي كان يذيل امضاءه( أو اسمه) بالعبارة التالية: من رقيق الأرض المتمردين علي الأغلال لما أسعدتك الإجابة. فالجهل بهذا المفكر يكاد يكون حالة عامة! والأعجب من ذلك أنه صاحب مذهب فلسفي يعرف بالفلسفة التعبيرية, وكان في زمانه من صفوة تلاميذ عباس العقاد ووضع نحو عشرين كتابا في الفلسفة والفكر, وكان يوصف بأديب الفلاسفة لأنه كان ذواقة للأدب العربي الرفيع وأحدثت آراؤه جدلا واسعا في حينه خصوصا عندما أصدر كتابه محمد الرسالة والرسول ثم توالت مؤلفاته تباعا ومنها: كتاب علي مائدة المسيح, والتقاء المسيحية والإسلام, والله والإنسان والقيمة, والحقيقة عند فلاسفة المسلمين.. والثابت عملا أن الدكتور نظمي لوقا قد وضع نصب عينيه رسالة لم يحد عنها قط طوال حياته وهي محاربة الجهل والتعصب, ليس فقط لأنه عاني علي المستوي الشخصي من هاتين الآفتين, الي حد أنه دخل في دوائر من الاحباط لا تنتهي, ولكن أيضا لقناعته الكاملة بأن خطر التعصب داهم علي مصر وأهلها, وهو أشبه بالنار التي ستأكل الناس والحجارة! لذلك كان يردد دائما علي مسامع المحيطين به أنه نذر نفسه لمحاربة ما كان يسميه بالتفكير الذاتي الذي لا يثمر غير التعصب الأعمي.. وكانت البداية إعلانه أن مهمته هي التبصير ومحو الأمية الفكرية فيما يخص الإسلام ومحمد صلي الله عليه وسلم, لأنه كان يستشعر أن موجات الجهل المتلاطمة كانت تطمر العقول وتحجب عنها جوهر الأشياء,.. وكان رائعا الدكتور نظمي لوقا عندما قال( مذكرا الآخرين ممن في قلوبهم زيغ) إنني شديد الإيمان بروح ديانتي المسيحية ومبادئها ومثالياتها, والمحبة التي تعم العدو والصديق هي لباب هذه الديانة, وبدونها تنحط الديانة الي شعائر جوفاء, ويضيف في مقدمة واحد من مؤلفاته قائلا: لئن وجبت علي إذن محاربة التعصب الذميم ومصدره وهو التفكير الذاتي فالمسيح يدعوني صراحة قبل أن أفكر في إخراج القذي من عين سواي, ان أجتهد أولا في اخراج الخشبة التي في عيني أنا. إن فيلسوفنا المصري نظمي لوقا هو صاحب تيار فكري يعلي من شأن الإنسان المصري دون أن يأبه للونه أو جنسه أو دينه, وحري بنا أن نستدعيه الي الذاكرة المصرية في هذه المرحلة التي يحاول البعض تصوير الأوضاع في صعيد مصر بل في مصر كلها وخصوصا بعد أحداث نجع حمادي التي راح ضحايا لها مسيحيون ومسلمون علي السواء, علي أنها حرب ضروس( علي أساس ديني) بين جناحي الأمة.. لو قرأنا نظمي لوقا الذي لم أر سببا واحدا لتجاهله طوال هذه السنين لتبين لنا أن الرجل كان مهموما بما نحن فيه اليوم, واضعا يده علي قلبه خوفا من أن تتفشي آفة التعصب لتحصد الأخضر واليابس, وتحول أرض الكنانة الي أرض الحقد والكراهية.. فها هو قبل عشرات السنين كان يدعو شعبه شعب مصر الي مكافحة الجهل وتكسير الحاجز النفسي بين الديانتين الإسلامية, والمسيحية مشيرا الي أن كل من يتبصر في لباب أديان التوحيد والمسيحية والإسلام كل منهما دين توحيد سيدرك علي الفور أن الله واحد هو المعبود هنا وهناك, وإن اختلفت شعائر التعبد وأسلوب التوحيد.. .. ولقد وضع هذا الفيلسوف يده علي البيئة التي يتفشي فيها هذا الداء العضال, أقصد التعصب, وهي البيئة التي يعيش فيها العامة الذين يراهم أشد خلق الله عبودية لما ألفوا.. وتلك هي الطامة الكبري, فيذكر أنه قد لفت نظره أن( العامة) علي اختلاف أديانهم ومللهم ونحلهم, في كل مكان من أرجاء الدنيا لا ينبيء عن عاميتهم الفكرية شيء مثل غلبة التعصب الأعمي عليهم.. وأن منشأ هذا التعصب هو الجهل بديانات الآخرين دائما, بل جهلهم بدياناتهم أنفسهم ولبابها الخلقي في الوقت نفسه. والحق أنه قد استقر في نفس هذا الفيلسوف أن الاستنارة الفكرية ومعرفة سمات الديانات المخالفة علي حقيقتها لا تضير الإيمان الذاتي, بل تجعله صافيا صفاء النور, لا معتما بدخان الجهل الداكن الذي ينقدح منه الشرر وقد تنشب منه الحرائق! وبرغم أن مغالطات كثيرة قد عكرت صفو الدكتور نظمي لوقا, فحسبه كل فريق علي هواه, لكنه أعرض عن هذا كله, وتمسك بقناعته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي أن الذي يثبت علي ديانته وهو جاهل بحقيقة ديانة أخري تعشش في نفسه الأساطير والأراجيف عن الديانة المخالفة, فينزلق الي ازدرائها مهما تظاهر بمجاملة معتنقيها, وذلك حسبما يقول ضرب من الظلم لا يليق بمتدين حقيقي غير مكتف بمظهرياته.. ثم أنه آفة نفسية وفكرية تحدث آثارها البعيدة في حياته كافة.. وبرغم ما لقيه فيلسوف التعبيرية المصرية من عنت شديد في حياته الأكاديمية والحياتية والفكرية, ومن صدود ونكران الي حد أنه اعتقد للحظة أنه إنما يكتب علي الماء! إلا أنه ظل وفيا لبنات أفكاره ومستحضرا طوال الوقت صورة استاذه سقراط الذي كان يعتقد أن( الرذيلة جهل) أي جهل بحقيقة الفضيلة.. وأنه يكفي القضاء علي الجهل بالفضيلة كي تتلاشي الرذيلة.. وأحسب أن الدكتور نظمي لوقا, كان يعلم يقينا أن حاله أشبه بالقابض علي الجمر, وبرغم ذلك لم يضعف أو يلين في مواجهة الجامدين والمتعصبين الذين ملأوا الدنيا ضجيجا( في زمانه), ولايزال أحفادهم يفعلون نفس الصنيع( في زماننا).. ومن أقواله التي يجب أن نكتبها بحروف من نور تكفيرا عن ذنبنا أننا نسيناه, بلا مبرر!! وتأكيدا لكونها الترياق الذي يمكنه أن يحمي الأمة ويصون وحدتها: لئن كنت أنصفت الإسلام في كتاباتي فليس ذلك من منطلق التخلي عن مسيحيتي بل من منطلق الاخلاص لها والتمسك بجوهرها وأخلاقياتها.. يتعين أن أواصل كفاحي لمحو الأمية الفكرية وإلا كنت مقصرا في حق ضميري, وديني وموضوعيتي الفكرية وانتمائي الوطني والقومي والإنساني. يبقي أن أذكر أنني أرشح مؤلفات الفيلسوف الراحل نظمي لوقا لكي تصدر في مكتبة الأسرة, وأحس أن القائمين عليها سوف يأخذون هذا الاقتراح مأخذ الجد, لأننا جميعا أحوج ما نكون الي إعادة قراءة د. نظمي لوقا خصوصا( العامة) الذين هم أشد خلق الله عبودية لما ألفوا, وأشدهم عداوة للخارج علي مألوفهم, وأسهل عليهم الخلط بين الخارج علي المألوف, وبين المارق.