الإيجابية تعني أن يكون المسلم فيضاً من العطاء قوياً في البناء ، ثابتاً حين تدلهم الخطوب ، لا ييأس حين يقنط الناس ، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر العاملون ، يصنع من الشمعة نوراً ، ومن الحزن سروراً ، متفائل في حياته ، شاكر في نعمائه ، صابر في ضرائه ، قانع بعطاء ربه له ، مؤمن بأن لهذا الكون إلهاً قدر مقاديره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. إن المسلم يحتاج لهذه الإيجابية لأنه المسئول عن نفسه ، وسيحاسب يوم القيامة فرداً ، وأنه ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (الإسراء /15). ومن الإيمان بهذا المنطلق ، يجب أن ينحصر تفكير المسلم فيما يجلب له الأجر ويقربه من الطاعة دون أن يكون تبعاً ، وأن يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون الالتفات إلى عمل أحد من الناس ، وليكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة عملية أمام عينيه ، ولا يجعل الأشخاص الآخرين أياً كانوا مثلاً له ، فقد يفتح الله عليه الهمة أكثر مما عند الآخرين ، أو يوفقه الله تعالى إلى عمل يتفرد به ، أو إلى فضل يؤثر فيه ، فلله في خلقه شؤون ، وهو المتفضل على عباده ، يختص برحمته من يشاء وكيفما يشاء. وحين نتأمل معنى الإيجابية في القرآن ، نجد أنه تكرر بصور شتى وأساليب متنوعة ، ليتأكد لدى المؤمن فردية التكليف وبالتالي ذاتية العمل ، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ﴾ (مريم/95) وإذا كان كل منا سيقدم على ربه فرداً، فعليه أن يعمل ويقدم أفضل ما يملك ، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ (مريم / 72،71) وهناك على الصراط المنصوب على متن جهنم من ينجي الإنسان بعد رحمة الله ، غير العمل الذي قدمه. وقال جلا جلاله: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (النساء/84) ، قال الزجاج رحمه الله ، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ، لأنه قد ضمن له النصر إن تذكر المسلم بأنه مطالب بالعمل والحركة يدفعه إلى الإيجابية ، مهما كانت أحواله من القوة والضعف أو الغنى والفقر. وإذا تأملنا القرآن في قصصه وأحداثه ، نجد هدهد سليمان عليه السلام مثلاً رائعاً في الإيجابية ، ذاك الطائر الصغير في حجمه الكبير في همه ، العظيم في تفكيره ، وذلك حين انفرد بعمل إيجابي أدخل أمة كاملة في الإسلام ، وما كان لسليمان عليه السلام أن يعلم بذلك لولا حركة الهدهد التي قدرها الله جل جلاله ، مع أنه عليه السلام سخرت له الإنس والجن والطير والرياح والملك والسلطان ، ومع ذلك ، قام الهدهد بعمل إعلامي عظيم في نقل خبر ملكة سبأ قال تعالى يحكي قصة الهدهد مع سليمان :﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ (النمل/20). إن سليمان عليه السلام يعرف جنوده جميعاً والهدهد من جنده إذ كان يجلب له أخبار الماء وإن كان بباطن الأرض ، فهو لا يستغني عنه ، ولذلك افتقده بين جنوده: ﴿ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ .... ﴾ (النمل/20...24) إن المسلم أولى من الهدهد بالعمل الإيجابي والسعي وراء المصالح والبحث عن الخير ، إن القرآن العظيم قص علينا خبر الهدهد في تقصيه الحقائق والأخبار ونقلها ، وقص علينا خبر النمل في حركته وحرصه على قوته ومدى تعاونه ، وقص علينا خبر النحل في تعاونه وتعاضده ، أفلا يكون الإنسان أولى بالعمل الدؤوب والحركة المتعاقبة المثمرة. إن الناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يرى الإيجابية واضحة في كل معانيها ، من يوم أن كان غلاماً يتيماً إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام ، وهكذا ربى أصحابه على معاني الإيجابية الفاعلة ، لقد كان يقول لهم : بادروا بالأعمال الصالحة ، ويقول : اغتنم خمساً قبل خمس ، ويقول : استعن بالله ولا تعجز.... وكان يكره أن يرى الرجل بلا عمل ، وإذا اشتكى إليه الرجل القوي قلة المال ، قال له : اذهب فاحتطب، وكان يشجع عبد الله بن عمر ويقول : نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل. ، بل كان يشجع الأعمال الصغيرة ويثيب عليها ، حتى تلك التي زهد فيها الناس اليوم ويرونها عملاً قليلاً ، كتنظيف المسجد مثلاً ، فحينما ماتت تلك المرأة التي كانت تقم المسجد وتطيبه بالبخور سأل عنها فأخبر بموتها وغضب لما لم يخبر فذهب وصلى عليها بعد أن دفنت.