ماذا تفعل إذا وجدت الدولة تطالبك فجأة بأن تغادر فورًا منزلك، وتترك أرضك وزراعتك التي تمثل مصدر دخلك الوحيد؟ وعندما تطالب بتعويض عما أصابك من ضرر، تكتشف أن الموظف الذي قام بحصر ممتلكاتك قد حصل - وبشكل رسمي- على مصاريف إدارية أكبر مما ستحصل عليه من تعويض، وفي النهاية.. تقوم الدولة بإعادة أرضك ومنزلك إلى شخص آخر. هذا بالضبط هو ما حدث مع قرابة مائة ألف مواطن نوبي، يعيشون قضيتهم المنسية منذ عشرات السنين، صحيح أن الأيام الماضية قد شهدت عودة القضية النوبية إلى الواجهة مرة أخرى، وذلك بعد الصخب الذي صاحب لاعب الزمالك الشهير "شيكابالا"، والهتافات العنصرية التي واجهها في مباريات الدوري الأخيرة، بسبب لون بشرته، كما كان لقاء الدكتور "البرادعي" مع ممثلي النوبة، والتصريحات التي نسبت إليه بخصوص تدويل القضية، سببًا آخر في إثارة الاهتمام بأبناء النوبة، وبالرغم من أن حضوري لذلك اللقاء أتاح لي أن أكون شاهد عيان على عدم صحة ما أثير حوله، إلا أن الأهم من ذلك هو تسليط الضوء على قضية توارثتها أجيال عديدة، ولا زالت تحلم بالعدالة فيها، من المهم أن نفهم المطالب النوبية، ونعرف إن كان لهم الحق في إثارة كل تلك الضجة، أم أن الأمر فيه مبالغة. يعود تاريخ النوبة إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، وتمتد أراضيها لما يزيد عن 350 كيلومترًا بطول نهر النيل، وذلك في المنطقة الوقعة من شمال السودان، حتى جنوبأسوان، وتتميز النوبة بخصوصية شديدة، مكنت أبناءها من مقاومة أي غزو ثقافي، فاحتفظوا بلغتهم الأصلية حتى اليوم، ويكفي أن نعرف بأن فتح مصر بقيادة عمرو بن العاص تم في ظرف خمسة أشهر فقط، في حين تطلب الأمر أكثر من عشر سنوات لفتح بلاد النوبة، حيث اشتهر النوبيون برماة "الحدق"، لمهارتهم الفائقة في رمي حدقة العين مباشرة، وكان ذلك سببًا في أن يفقد أكثر من 150 قائد عربي عيونهم في تلك المعارك. الواقع يؤكد أن تاريخ أهالي النوبة يمثل سلسلة من التضحيات المتتالية، كانت أولى مراحل التشتت التي واجهها النوبيون عندما تم ترسيم الحدود بين مصر والسودان بشكل قسري، لم يهتم بالتجمعات البشرية وخصوصيتها، حيث تم فصل عشر قرى نوبية تابعة لمركز "حلفا" لتدخل ضمن حدود السودان، كما تم تغيير اسم محافظة النوبة إلى مديرية أسوان، وبدأت رحلة المعاناة مرة أخرى عند انتهاء بناء خزان أسوان عام 1902 حيث ارتفع منسوب المياه خلف الخزان ليغرق المساكن والأراضي الزراعية في عشر قرى نوبية من بين 44 قرية تعيش هناك، ثم جاءت التعلية الأولى للخزان عام 1912 لتتسبب بطوفان جديد وهو ما أدى إلى إغراق ثماني قرى نوبية أخرى، واكتملت المعاناة مع التعلية الثانية للخزان عام 1932، التي أغرقت مياهها هي الأخرى عشر قرى نوبية جديدة. وكانت النهاية المأساوية للتواجد النوبي مع بناء السد العالي، حيث قررت الدولة ترحيل ما تبقى من قرى نوبية، ولكن المثير للدهشة حقًا أن الدولة أصدرت قانونًا "بالمقاس" يختص بنزع ملكية أراضى النوبة، وذلك رغم وجود قوانين تنظم نزع ملكية العقارات، وكان السبب هو ما رأته الدولة آنذاك من أن القوانين السارية آنذاك سوف تعرقل إنجاز عملية التهجير، لأنها تعطي الحق للمتضررين من جراء نزع الملكية، في اللجوء إلى القاضي الطبيعي للتظلم في القضية، وما يرتبط بها من تعويضات، أما القانون الجديد فقد جعل هذا الحق في يد لجنة إدارية مكونة من مندوبين عن عدة وزارات، لتصبح الحكومة بذلك هي الخصم والحكم في نفس الوقت. وهكذا تم ترحيل السكان عشوائياً وفقًا لجدول زمني سريع، رغبة في إخلاء بلاد النوبة قبل مايو 1964، الذي حدد موعدًا لتحويل مجرى نهر النيل، فارتضى النوبيون بالهجرة إلى "كوم امبو" و"إسنا" وفقًا لشروط أبرموها مع الدولة، تتلخص في الحصول على أرض زراعية ومسكن، ولكن كانت صدمتهم كبيرة عندما وجدوا مساكن لا تصلح للاستخدام الآدمي، بالإضافة لعدم تواجد مياه صالحة للشرب ولا كهرباء، مع استحالة تربية المواشي والطيور، التي تمثل أهم عناصر الحياة والدخل بالنسبة للمواطن النوبي المزارع، ولكي ندرك حجم الإجحاف الذي وقع على أهل النوبة، دعونا نلقي نظرة مقارنة لما حدث للنوبيين السودانيين، الذين هُجروا من قرى وادي حلفا إلى منطقة التهجير الجديدة (خشم القربة)، حيث وجد السوداني مسكنًا مساحته 350 متر، إضافة إلى حديقة صغيرة أمام المسكن، وحظيرة للمواشي، أما في مصر، فلم تزد مساحة المسكن عن 150 متر بدون أي ملحقات، كذلك فقد حصل النوبي السوداني على المسكن بصرف النظر عن كونه مقيمًا أو غير مقيم، أما في مصر فقد تم منح المسكن للمقيم فقط من دون المغترب –أطلقت الحكومة هذا المسمى لغير المتواجد في قريته النوبية أثناء الحصر، بسبب بحثه عن الرزق، بعد أن غرقت أرضه- فلم تبن لهم مساكن حتى يومنا هذا، وبالنسبة للأراضي الزراعية فقد منحت الحكومة السودانية لكل صاحب مسكن مساحة 15 فداناً، وضعف المساحة للنوبي الذي يملك أرضًا زراعية، أما في مصر فقد وزعت الحكومة على المقيمين ما سمي بفدان الإعاشة، والذي تبلغ مساحته الحقيقية حوالي 14 قيراط للأسرة كلها. هذه أجزاء من فصول المعاناة النوبية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم، والتي نكأ جراحها "البرادعي" مرة أخرى، وأضافت إليها جماهير الكرة بعدًا عنصريًا جديدًا، ويبقى في الناهية أن نطرح السؤال.. عن سر الاضطهاد الواضح لأهل النوبة على مدار العصور المختلفة؟ وما هي أوضاعهم ومطالبهم في الوقت الحالي؟ هذا ما سوف نتحدث عنه بالتفصيل في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]