سعد الشيخ، المزارع بإحدى قرى شباب الخريجين بالبحيرة، اشترى منذ أربع سنوات خمسة أفدنة، زرعها وصرف عليها كل ما يملك مثلما يقول، ولكنه فوجئ بأن محافظة البحيرة تنذره بضرورة تقنين وضعه حتى يستكمل ما بدأه، وعرف أن إجراءات تقنين الأوضاع تتم فى «مصر»، تحديدا فى هيئة التعمير والتنمية الزراعية، وهناك عرف أنه ليس الوحيد الذى اشترى من شباب الخريجين، وذهب لتقنين وضعه، فقد سبقه ولحقه أبناء 13قرية أخرى تابعة للبحيرة أيضا استصلح فلاحوها الأراضى، وكلهم فوجئوا بأن إجراءات شراء الأراضى من الحكومة تستلزم دفع مبالغ لا تقل عن 30 إلى 60 ألف جنيه عن الفدان الواحد. «خبطنا راسنا فى الحيط». تابع سعد الشيخ، ومن يومها لم يقرب الرجل ناحية وزارة الزراعة، خوفا على أرضه ولمعرفته أنه لن يستطيع بأى حال إعادة شراء الأرض بمبلغ لن يقل عن 150 ألف جنيه بعد التظلم لدى الهيئة. الحال نفسه تكرر مع محمد جويلى فى إحدى قرى البحيرة، لكن السيناريو اختلف قليلا بعد أن ذهب لإدارة التظلمات بالهيئة، ولا يزال موقفه معلقا منذ ثمانية أشهر وحتى الآن لم تبت اللجنة فى قطعة أرضه. محمد قال إن إعادة تثمين قطعة الأرض يتحدد بناء على مصدر الرى والمنطقة، التى تتبعها قطعة الأرض والمحافظة التى تقع فى زمامها، ولكن تثمينها مبالغ فيه خاصة أننا قمنا بدق الآبار على نفقتنا وقمنا بمدها بخراطيم الرى وتكلفنا مصاريف الاستصلاح كاملة. أحلام المزرعة والبيت الصغير تتحطم أمام «الحكومة» أصحاب الأراضى وضع اليد فى مصر دخلوا إلى المتاهة بعد شراء الأرض واستصلاحها، جاءوا إلى وزارة الزراعة على أمل تقنين أوضاعهم، مثلما وعدهم القانون رقم 148 لسنة 2006. ورغم أن أمين أباظة، وزير الزراعة واستصلاح الأراضى، خرج من اجتماع مجلس إدارة هيئة مشروعات التعمير والتنمية الزراعة، منذ أيام ليعلن أنه تقرر مد مهلة التقدم لتقنين أوضاع المزارعين من واضعى اليد، إلا أن الإقبال كان ضعيفا على أبواب الهيئة، فى ظل وجود «مبالغ جزافية» يجد المواطن نفسه مضطرا لدفعها لقاء تقنين وضعه. الفلاح من هؤلاء تجده يمشى طولا وعرضا، يملأ الدنيا صخبا بدبيب قدميه أمام وزارة الزراعة، وما يكاد يصعد للدور الثانى بهيئة التعمير والتنمية الزراعية حتى تتلاشى حالة الثبات تلك، وبعد أيام وأيام من تقديم أوراق تفيد بحيازته لقطعة الأرض، وأخرى تضم طلبات تقنين وضع اليد، يكتشف أن الأرض التى بالكاد تكفيه قوت يومه وتحتاج لمبالغ طائلة قد تصل إلى 60 ألف جنيه على الفدان الواحد حتى ينتهى من تسجيلها وتقنينها وشرائها من الدولة. فى طريق مصر الإسكندرية المئات من المنصوب عليهم من قبل شركات بيع الأراضى يعانون تبعات فتح ملف التعديات على أراضى الدولة، فبعد أن اشتروا قطع أراض من الشركات «الوهمية»، التى كانت تعمل تحت سمع وبصر الدولة، ذهبوا منذ عدة شهور لتسديد قيمة تقنين أوضاعهم بعدما فلحوها، بناء على طلب وزير الزراعة والمركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة التابع لمجلس الوزراء.. أسامة متولى واحد منهم، ذهب إلى وزارة الزراعة، «وهناك قالوا لنا عايزين خريطة بالمكان وإحداثيات الموقع وسى دى يوضح الأماكن المزروعة». أسامة حائز لقطعتى أرض فى مشروع «وادى الملوك»، كل قطعة فدان واحد، كان يأمل أن يتحقق حلمه فى امتلاك مزرعة وبيت صغير وسط المزارع، فاشترى قطعتى الأرض بمبلغ 55 ألف جنيه من صاحب المشروع، وحين تم إلقاء القبض عليه ذهب مع من ذهبوا إلى وزارة الزراعة، لتقنين أوضاعهم، وقام العديد منهم بتحرير محاضر فى قسم 6 أكتوبر، باعتبارهم مالكين بعقود من الشركة، وليسوا أطرافا فى النزاع، ولم يحصلوا على رد من كلتا الجهتين. الباب الخلفى لتقنين أوضاع الفلاح سهل ومضمون أيضا اخترعت كل الأطراف «أبوابا خلفية» للالتفاف على التعنت الإدارى، وهذا الباب هو شركات التسويق العقارى. هذه الشركات، التى يتهمها البعض بممارسة النصب الحكومة والمزارع باسم الشركة، ليرسل أحد موظفيه إلى هيئة التنمية الزراعية، ويقوم بتسجيل الأرض من خلال «وسيط» آخر أو عدة وسطاء داخل الهيئة لتسهيل مهمة التسجيل. «الشروق» هاتفت عددا من الشركات الوهمية، التى أنشأت صفحات على شبكة الإنترنت من أجل معرفة آلية عمل تلك الشركات ونسبة الربح، التى تحصل عليها لقاء إنهاء أوراق تسجيل أراضى الفلاحين. الإجراءات الرسمية التى تبدو معقدة للغاية، وتستلزم تشكيل لجنة ونزولها إلى موقع الأرض المراد تسجيلها وشراؤها من الدولة، تجعلها الشركات أسهل من صعود الدور الثانى للهيئة، مقابل نسبة من الأرض. يرد صاحب رقم الموبايل المعلن على الإنترنت بصوت يبدو منه أنه لم يتلق قدرا كافيا من التعليم، ليجيبك بصوت يتصنع فيه «الذوق» و«الشياكة» بأن: أؤمر يا فندم. عندى حتة أرض على الكيلو 58 من الطريق الصحراوى وكنت عاوز أقنن وضعى. يبدأ «الموظف» فى وصلة أسئلة عن حجم قطعة الأرض، وإذا كانت قد دخلتها الكهرباء أم لا، وإذا كانت قريبة من بئر يرويها، وما مدى قربها من «الطريق السريع»، لتكتشف أنه يستدرجك ليعرف قيمتك، أو بالأحرى قيمة أرضك التى تتصل لأجلها. المدهش أنه عادة ما يسأل إذا كانت لديك أوراق تفيد بملكيتك للأرض أم لا، وإذا أجبته بأن «لا»، يقول: «ربنا يسهلها» أو «مش مهم». فضلا عن هذا، فإن قانون ولوائح وضع اليد تشترط على المتقدم أن يكون قد زرع الأرض بالكامل، يذوب تماما أمام سماسرة الأراضى. ما المقابل؟ هذا هو السؤال الأهم الآن. ولن يمهلك السمسار لتفكر كثيرا، سيقول لك فورا إن الشركة ستحصل على جزء من الأرض، قد تكون ربعها، وقد تصل إلى نصفها فى بعض الأحوال. «لا علاقة بين هيئة التعمير وتحديد ثمن الأراضى» أشرف عفيفى، رئيس الإدارة المركزية لشئون مجلس إدارة هيئة التعمير يؤكد أن التثمين هو مهمة اللجنة العليا لتثمين أراضى الدولة، بينما يتوقف دور هيئة التعمير عند حدود «التقنين». والإجراءات؟ يقول أشرف عفيفى إن الإجراءات تبدأ بتقديم طلب إلى هيئة التعمير، يتضمن خريطة بها إحداثيات قطعة الأرض، ثم تقوم الهيئة ببحث الطلب «مكتبيا» فى البداية، وفى المرحلة التالية يتم عمل معاينة على أرض الواقع على أن تكون قطعة الأرض أقل من 100 فدان طبقا لقانون وضع اليد، بعد تشكيل لجنة من خمسة جهات بالهيئة هى إدارات المشروعات الزراعة والمياه الجوفية ومساح وإدارة الملكية والتصرف والمشروعات المدنية فى بعض الأحيان، وبعد المعاينة يتم عرض الطلب على مجلس إدارة الهيئة، الذى يتشكل من 9 وزارات وجهات تابعة للدولة، للبت فى قرارات الأراضى. فيما قال مصدر مطلع بالهيئة رفض ذكر اسمه إن تقديرات الدولة لأثمان الأراضى معظمها يشوبها «الاستعباط» والعمل بنظام «اللى تغلب به العب به»، حيث تضرب لجنة التثمين رقما ضخما، فإذا تظلم المزارع خفضت لجنة التظلمات بالهيئة المبلغ قليلا، وإذا لم يتظلم ودفع بهدوء يكون «خير وبركة». أما محمود رسمى، نائب رئيس اللجنة العليا لتثمين أراضى الدولة، فيقول إن تقديرات الحكومة لأثمان الأراضى يعتمد على خبراء قانونيين وآخرين لهم باع فى الشأن الزراعى، ومن غير المنطقى أن تبيع الدولة أراضيها «ببلاش»، ولكن بناء على معلومات تفيد بوضعها على خريطة الاستثمار الزراعى.