كان حال الطب في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مزرياً وكانت نسبة الوفيات في مستشفى طب لندن 25% و 43% في ادنبره و 59% في باريس إلى الحد الذي جعل "فلورنس نايتنجيل" تصف الأوضاع بقولها عن عنابر المستشفى "الأرضيات من الخشب العادي مشبعة بالمواد العضوية والحوائط من البلاستر المشبع بالشوائب والنوافذ مغلقة لعدة شهور بهدف التدفئة والجدران تنضح بالرطوبة تغطيها الطفيليات النباتية" ثم عادت ووصفت الممرضات في عام 1851 بقولها "كانت الممرضات كالعاهرات يأتون بهن من الشوارع وهن سكارى ويواصلن ممارسة تجارتهن في المستشفى ولا يفعلن شيئاً إلا تقديم الدواء للمرضى إذا تذكرن ذلك" وكان الجراحون والأطباء لا يقدمون من المساعدة إلا القليل إذ كان معظمهن يتجولون في عنابر المستشفى واضعين على أنوفهم المناديل ولم يكن هناك من الماء ما يكفي للاغتسال وغرف العمليات ضعيفة الإضاءة وقذرة وكانت المعاطف التي يرتديها الأطباء المخصصة للعمليات هي نفسها التي يرتدونها خارج المستشفى وغالباً تظل دون غسيل لمدة شهر وهي ملوثة بطبقة مجمدة من الدماء... إلى آخر هذه الأوضاع التي اشتهرت معه عبارة نمطية تقول "عملية ناجحة رغم وفاة المريض" ولعل هذا هو اصل العبارة الدارجة عندنا "نجحت العملية ومات المريض" لقد تعمدت الإطالة في هذا الوصف لتوضيح الإخطار التي تحيط بثورة الحرية في تونس. لقد نجحت انتفاضة التونسيين على الأوضاع الديكتاتورية في تونس نجاحا حدا بالرئيس المخلوع الى الهرب في هرولة منعته حتى من اخذ كل إفراد عائلته معه. إلى هنا ونحن بصدد لحظة تاريخية مجيدة وتاريخ يسطر أمام أعيننا. ولكن الحقيقة أن هذه العملية تمت في بيئة ملوثة تماماً كما تعمدت من الإطالة في المقدمة. ان عقوداً من الديكتاتورية لوثت الحياة التونسية من كل جوانبها وأنشأت في كل ركن منها ديكتاتوراً صغيراً وقننت هذه الأوضاع في الدستور والقانون. كما ان النخب الموجودة خارج السلطة تعيش منذ عقود في هذا الجو الغير صحي انتقلت إليها عدواه واغلبها إقصائي ينادون حتى وهم خارج السلطة بإقصاء تيارات معينة ليس من المشاركة في السلطة فقط بل من مجرد الوجود العام حتى أننا بدأنا نسمع من ألان بضرورة استبعاد التيار الإسلامي... يخطئ التونسيون كثيراً إذا اعتقدوا أن الحرية قد جاءت بمجرد هروب زين العابدين إذ أن هناك ألافا مثله يتشدقون كثيرا بالمناداة بالحرية والديمقراطية إلى آن يسكرهم كرسي السلطة. إن ما يجب على التونسيون أن يفعلوه أن يطهروا غرفة العمليات فورا حتى يعيش المريض. يجب التركيز التام على النظام السياسي وتغييره بالكامل دون الاهتمام بالأشخاص. لابد من دستور جديد وقوانين جديدة وحرية تكوين الأحزاب بالإخطار وحرية إصدار الصحف وحرية المجتمع المدني. ولكي تتم هذه العملية بنجاح لابد من استبعاد كل الوجوه الحاكمة القديمة كبيرها وصغيرها من المشاركة في هذه العملية كما لابد من استبعاد كل أطياف النخبة والأحزاب الاقصائية. إن هناك سباقاً محموماً في الغرب والشرق الآن للالتفاف على انتفاضة التونسيين ويجب آن يعلم التونسيون آن هناك آلاف اللجان في بلاد كثيرة الآن يصلون الليل بالنهار لإجهاض هذه الانتفاضة المجيدة وإذا لم يكمل الشعب التونسي معركة الحرية بعزم وصبر فقد تضيع تضحياتهم سدى. إن الحرية رحلة طويلة وشاقة وليست موقفاً آو خطوة تؤخذ ويتم المطلوب وإذا لم يكمل التونسيون الرحلة فأخشى آن نقول لا قدر الله بعد ذلك آن العملية نجحت ومات المريض. عادل الجزار - كندا