ثمة قانون تاريخي رسّخ أقدامه في الشرق الأوسط منذ ألف عام، قِوامه التالي: كلّما ارتكس المشرق العربي، انتفض المغرب العربي وأمسك بالمبادرة التاريخية، وهذا على كل الأصعدة، الفكرية والفلسفية والسياسية والإستراتيجية. وهكذا، حين برز الإمام الغزالي في المشرق ليُعلن "تهافت الفلاسِفة" وليليه الأشاعرة وإبن تيمية، ليغلقوا باب الاجتهاد، برزَت في المغرب العربي كوكبة من كِبار المفكِّرين الذين لم يُعيدوا إلى الحضارة العربية - الإسلامية وهْجها فحسب، بل هُم كانوا أيضاً الأساس الحقيقي لعصرَيْ النهضة والتنوير في أوروبا: إبن رشد، الذي أطلق الفكر الأرسطي من عِقاله، وإبن خلدون، مؤسِّس علم الاجتماع الحديث، وإبن طُفيل، الذي سبق تشارلز داروين بألف عام في نظرية النشوء والارتقاء. وعلى الصعيد السياسي - الإستراتيجي، كان المغرب العربي يزوّد المشرق بأسُس إمبراطوريات عدّة، كانت على رأسها الإمبراطورية الفاطمية التي وصلت منه إلى مصر، مُحقِّقة نهضة عِلمية وفِكرية وعمرانية مشهودة. فهل نحن الآن، في القرن الحادي والعشرين على أبواب "تطعيم" مغاربي تاريخي جديد، لمشرق يتهاوى بشدّة منذ نيف ونصف قرن تحت ضربات التفتيت والاحتلالات والانحِباس السياسي والفكري والحضاري؟ تونس تتكلّم انتفاضة تونس الشعبية تَشي بذلك. فهذه الانتفاضة التي فاجأت الجميع في توقيتِها وشكلِها وحجمِها، قرَعت أجْراساً صادِحة في كل أرجاء المشرق العربي، ناهيك ببقية دول المغرب، مُبشّرة بأن فجراً جديداً ربّما ينبثِق مجدّداً لكل الشرق الأوسط العربي – الإسلامي، إنطلاقاً من الشّرارة التونسية. الحِراك الشعبي التونسي كان مفاجِئاً وِفق كل المعايير، لأن الانطِباع الذي ساد في المشرق طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، هو أن تونس كانت رائِدة في ثلاثة مجالات. الأول، "المُعجزة الاقتصادية" التي كان يُفتَرض أن تُحوّلها إلى نمْر جديد يزأر هذه المرّة، ليس في آسيا، بل على سواحل شمال إفريقيا. والثاني، الإصلاحات الاجتماعية التي بدأت مع الحبيب بورقيبة والتي أسْفرت عن نشوء طبَقة وُسطى قوية مُعزّزة بحقوق واسعة للمرأة. والثالث، استقرار سياسي تحرسه أجهزة استخبارات قوية تُمارس السيطرة والهيْمنة بكل أشكالهما. بيد أن الانتفاضة الشعبية بدّدت كل هذه الافتراضات التي تبيّن أنها انطباعات مغلوطة. فالمُعجزة الاقتصادية تكشّفت عن كونها "مُعجزة" فقط لطبقة محدودة من أصحاب السلطة والنفوذ، فيما تعيّن على غالبية الشعب التونسي أن يدفَع الأثمان الباهظة ل "إجماع واشنطن" المستند إلى الليبرالية الاقتصادية المنفلتة من عِقالها، وكذلك للأزمة الاقتصادية العالمية الرّاهنة. والإصلاحات الاجتماعية، على أهميَّتها القُصوى في المنطقة العربية كنموذج، بدَت أنها قاصِرة حين افتقدت إلى مسألة العدالة الاقتصادية. أما الاستقرار السياسي، فقد تكشّف على أنه استقرار وهْمي، لأنه ارتكَز على الخوف والتّخويف وإرهاب الدولة، وليس على المقبولية وشرعية حقوق الإنسان. عوْدة الطبقات؟ بالطبع، من المبكّر للغاية الآن التنبُّؤ بما ستَؤول إليه الأمور في تونس وما إذا ما كانت ستتحوّل إلى ثورة سياسية تُسفِر عن قيام أول نظام ديمقراطي في الشرق الأوسط العربي، كما يأمل الخبير المغاربي الحسن عاشي. ومع ذلك، الأيام القليلة التي عاشها العالم العربي مع الانتفاضة التونسية، كانت كافية لطرح السؤال الكبير فيه: هل بدأت الصراعات الاجتماعية - الطبقية تحُل مكان النزاعات الأديولوجية كأولوية في البلدان العربية؟ تونس، التي ربّما شهدت للمرة الأولى في تاريخها قِيام شاب من خرّيج الجامعات بإحراق نفسه، احتجاجاً على البطالة، أكّدت أن هذا ما قد يحدُث بالفعل. والدليل، أن نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وجد نفسه للمرة الأولى مُضطراً إلى القيام بسِلسلة خُطوات إصلاحية سريعة لوقف تظاهُرات الاحتجاج العفوية، التي تنقّلت من حيٍّ إلى حي كالهَشيم في النار. في الجزائر، لم يكُن المشهد مغايِراً. فالتَّظاهُرات الشعبية التي تلوَّنت في الكثير من الأحيان بأعمال العُنف الغاضبة، اجتاحت العديد من المُدن من دون أي يبدو أن ثمّة قِوى حزبية منظّمة تقِف وراءها، وهذا أمر أخطَر، لأنه يعني أن أحداً (بما في ذلك الأجهزة الأمنية!) لم يعُد يُسيطر على الشارع، حتى ولو تأكدت التسريبات التي تحدّثت عن صراعات بين أجنحة السلطة تمدّدت إلى الشارع. المغرب، ربّما يكون حالة استثنائية بسبب المشروع الناجح الذي طبّقته الحكومة خلال السنوات القليلة الماضية لاستِئصال الفقر. بيْد أن هذا لا يعني خاتمة الأحزان هناك. أما الدول العربية الأخرى، عدا دول الخليج، على غِرار مصر وسوريا ولبنان والأردن، فالأرجُح أن تصيبها العَدوى التونسية قريباً، لأن الأزمات المشابهة تُولّد محصّلات مُشابهة. السبب المباشر للاضطرابات الشعبية المتوقّعة في البلدان العربية، هو الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية، إذ أوضحت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، التي تُراقب العديد من السِّلع الزراعية في السوق العالمي، كالقمح والذرة والأرز والسكر واللحوم، أن أسعار هذه المنتوجات قفزت في الآونة الأخيرة إلى مُستويات قياسية. وبما أن معظم البلدان العربية تستورِد كل حاجياتها من المواد الغذائية من السوق العالمي وبما أن روسيا وأوكرانيا، وهما المصدِّران الرئيسيان لهذه المواد، فرضتا قيُوداً على التصدير بسبب الجَفاف، فقد كان محتَّماً أن تنشأ أزمة غِذاء حقيقية في المنطقة العربية. بيْد أن المشهد لا ينتهي عند هذا الحد. فعلى رغم الإنجازات التي حقّقتها العديد من الدول، خاصة المغرب والجزائر ومصر، في مجال تقليص معدّلات البطالة من 20-30% إلى 10-15% الآن، إلا أن دخول ملايين الشبّان إلى سوق العمل سنوياً، يُهدِّد بإطاحة هذه الإنجازات، ما لم تُتّخذ سريعاً إجراءات تتمثّل في تطوير قِطاعات الصناعة والزراعة وجعْلها أكثر تنافُسية في الأسواق العالمية، والانتقال من توفير الأعمال جديدة الكمِية إلى الأعمال النوعية وانتهاج إستراتيجيات جديدة لخلْق وظائف ذات قيمة مُضافة وتطوير مناهِج التعليم والتّدريب المِهني. خطوات ضرورية.. لكنها غير كافية كل هذه الخطوات ضرورية ومطلوبة، لكنها مع ذلك، لن تكون كافية وحدَها لمُواجهة ما حذّر منه تقرير التنمية البشرية العربي لعام 2009 حول تدفّق عشرات ملايين الشبان (الرقم قد يصِل إلى 50 مليوناً عام 2025) إلى سوق العمل. هنا، ستكون الحاجة ماسّة إلى تضافُر كل الجهود العربية لتطوير إستراتيجيات مُشتركة للأمن الغذائي، ولخلْق بيئة ملائمة لتشجيع الأموال العربية على الاستثمار في المنطقة، لا في الغرب، وأيضاً لإيجاد حلول منسّقة لمسألة البطالة. بالطبع، كل ذلك يحتاج إلى قرارت سياسية شُجاعة من جانب سائِر الحكومات العربية. فهل هي في وارِد اتِّخاذها؟ من الأفضل لها أن تفعَل. فحين تصبح الأولوية للصِّراعات الاجتماعية - الطبقية وحين يُصبح رغيف الخُبز مغمّساً بالدم، لا تعود الشجاعة مُجرّد صِفة أخلاقية مطلوبة، بل تصبح مسألة بقاء أو لا بقاء، وانتفاضة تونس، المؤشر الأول على هذه الحقيقة. المصدر: سويس انفو