لم تكد الدقائق الأولي لعام جديد تدق حتي واكبها انفجار هائل ومروع أمام كنيسة القديسيين بالاسكندرية ، وهو انفجار مفخخ كبير وضخم لم تعرفه مصر من قبل ، وكأن عنوان العام الجديد أراد ذلك الحادث المروع أن يرسمه ، إنها العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر . أو الجماعة الوطنية المصرية ووحدتها في ظل ظروف متغيرة ومتحولة . لا بد من الإشارة إلي أن " ابن قيم الجوزية " وهو أحد كبار علماء المدرسة السلفية الحنبلية ومن علماء القرن السابع الهجري وأحد المصادر الهامة للتيار السلفي المعاصر يشير في كتابه الهام " أحكام أهل الذمة " والذي حققه الدكتور صبحي الصالح وكتب مقدمة نفيسة له العلامة الباكستاني محمد حميد الله عن علم السير وقواعد العلاقات الدولية في الإسلام – يشير إلي أن المسلمين يحمون دور العبادة لغير المسلمين في تفسير قوله تعالي " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " فسرها بقوله ولولا دفع المسلمين عن دور العبادة للمسيحيين وغيرهم لتعرضت للهدم ، وهذا رغم أن كتاب ابن القيم تضمن آراء متشددة في قضايا لها صلة بالواقع الدولي الذي كان موجودا في ذلك الوقت وهو تعرض العالم الإسلامي لخطر الهجمات الصليبية وتأثير ذلك علي رؤي الفقهاء لغير المسلمين في الداخل . ويشير ابن القيم في كتابه نفسه إلي أن وجود أصحاب الديانات الأخري قبل الإسلام هو دليل علي الربوبية والألوهية ودليل علي إثبات تحقق ديانة الإسلام ذاتها وبعثة محمد صلي الله عليه وسلم . ويري علماء المسلمين القدامي والمعاصرين أن الله لم يخلق العالم ليكون للمسلمين وحدهم ، بل إن الاختلاف هو سنة الله القدرية الماضية التي لا يمكن لأحد أن يدافعها " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين " ، فالاختلاف هو أحد سنن الله الكونية والقدرية التي تشير إلي عدل الإسلام وعظمته ، فنحن لسنا وحدنا في الكون بل إن هناك خلقا آخرين مختلفين معنا في الدين واللغة والثقافة ، وقد طور المجتهدون المسلمون المعاصرون صيغا تستوعب التنوع وتجتهد في تقبل فكرة المواطنة القائمة علي أن غير المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين وأن واقع العالم العربي بعد زوال الاستعمار وبناء الدولة الحديثة اختلف عن واقع الإسلام الفاتح ومن ثم فمفاهيم المساواة في الحقوق والواجبات هي التي أصبحت مسيطرة في منظومة الاجتهادات الإسلامية المعاصرة . يري المسيحيون أن لهم حقوقا مغموطة مثل بناء الكنائس والوظائف في الدولة ويري المسلمون أن مصر بدخول الإسلام إليها أصبحت عربية إسلامية وأن المسيحيين مواطنون مصريون بيد إنهم ينعزلون عن بقية الجماعة الوطنية إلي الكنيسة وهو ما جعل العديد من النخب تتحدث عن سلطة الكنيسة خارج نطاق الدين . من المؤكد أن السجال الدائر بين المسلمين والمسيحيين في مصر امتد تأثيره إلي الخارج ودخل علي الخط تنظيمات من الواضح أنها تريد تعميق الشرخ في علاقات التداخل والجوار والعيش المشترك الذي أعطي للجماعة الوطنية المصرية قدرتها علي تحدي الصعاب ومواجهة الأخطار ، وعلي قدر ماندين العمل الإرهابي الذي توجهت به جهات لا صلة لها بالإسلام إلي كنيسة القديسين في الإسكندرية فإننا ننتظر أن يكون المسيحيون في مصر علي قدر الوعي بخطر اللحظة التي تمر بها مصر ويرتفعوا علي آلامهم وغضبهم ، بقدر ما كانت المسلمون مقدرون لحساسية ما جري ، بيد إن الاستغراق في المشاحنات والملاسنات والمغالاة في العزلة والدعوة للانتصاف لمطالب طائفية لن يحل المشكلات الكبري التي تواجهها مصر ، نحن نريد دولة مدنية لا تهدر هوية الأغلبية وهي الإسلام ولا تهمل حقوق الأقلية تعلي القانون وترسي قواعد العدل وتؤسس لهوية مصرية جامعة تجمع في ظلها المسلمين وغيرهم . التوزيع الجيواستراتيجي للمسيحيين في مصر يتداخل بقوة مع المسلمين ، ففي الأحياء تواجد مشترك وفي المنازل والبيوت والشوارع والمدارس والجامعات ، وسكان هذا البلد الذي جعله الله آمنا هم لحمة وسدي وجوده وتاريخه ، هذه البداية العاصفة لذلك العام نرجو أن تكون انعطافة حاسمة نحو مراجعة علاقة المسلمين والمسيحيين في مصر ، فبدون قوة الالتحام بين مكونات الجماعة الوطنية المصرية العربية الإسلامية فإن نعمة الأمن والاستقرار التي ننعم بها جميعا ستكون في مهب الريح . لدينا خبرات في لبنان الحرب الأهلية والعراق الحرب الطائفية والسودان الانقسام الجنوبي واليمن مواجهات الحوثيين ، وكل هذه الخبرات مرآة نري فيها أن بداية هذا العام العاصف تجعلنا نتحرر من أوهام الرهان علي القوي الخارجية أو الرهان علي الخطاب الطائفي الذي يكرس العزلة ويؤثر المغاضبة والمفارقة . إن لحظات الاعتصام والتوحد والوقوف صفا واحدا دونها أيام سوء وشر عاصفة وقي الله بلادنا خطرها ووقي المصريين جميعا دوامتها ، فأي اللحظات أحق بالتمسك والعض عليها بالنواجذ ؟ لا نقول غير الاعتصام بحبل العيش المشترك المتين .