لا أعرف لماذا لم أتعاطف من أول يوم مع قضية الشاب طارق عبد الرازق الجاسوس الجديد الذي حاولت جهات عدة في الدولة جعله الحدث المحوري الذي يفرض على القارئ المصري يوميا طوال خمسة عشر يوما وربما تمتد إلى شهرين ، لا أقصد التعاطف مع الجاسوس ، فلا يمكن لأحد أن يتعاطف مع جاسوس ، خاصة إذا كانت الجاسوسية لصالح العدو الأول ، ولكني لم أتعاطف مع "الفيلم" الذي يتم ترويجه لهذا الجاسوس الأسطوري . التاريخ الذي قدم لهذا الشاب ومؤهلاته وخبراته ومستواه الاجتماعي وحتى هيئته لا يمكن أن تستقيم مع جاسوس سوبر حسب الرواية المقدمة لنا ، يتمدد لحساب الموساد في مصر وسوريا ولبنان ويمتد نشاطه من الصين والهند إلى المغرب العربي ، فشاب بتعليم متوسط ، دبلوم صنايع ، وفاشل مهنيا ، ولا يملك أي مستوى تعليمي أو اجتماعي أو وظيفي يتيح له التواصل مع جهات رفيعة في الدولة أو مصادر معلومات عالية ، يصبح جاسوسا عالميا يقال بسببه وزراء ويوشك على تجنيد قيادات أمنية كبيرة في بلدان عربية كبيرة وتجنيد رؤساء تحرير صحف كبرى واختراق جماعات دينية كبيرة ويكشف له "الموساد" عن تفاصيل لمعلومات حساسة في دول عربية وشخصيات جاسوسية أخرى ببساطة شديدة ويتاح له الاطلاع على أسرار عمليات شديدة الحساسية للموساد ، كلها مواقف وحكايات تحتاج إلى "قفا عريض" لكي يتم استيعابها . وأنا لا أفهم كيف يمكن أن يمارس شخص واحد شخصية "القواد" الذي يسرف في الخمر والنساء والحشيش والمخدرات وسهرات الأنس في نفس الوقت الذي يؤدي دور رجل الدين المتشدد لكي يتاح له الاختراق لجماعات دينية متشددة يتحول بموجبها في نفس الوقت إلى شخص ورع ومواظب على الصلوات والصيام والقيام وحفظ القرآن والمعرفة بالسنة وخلافه ، وفي الوقت الذي يطلب منه أن يبيع دينه ووطنه يكون حريصا على دعوة زوجته الصينية إلى الإسلام لتسلم على يديه !! ، كما أنها المرة الأولى في حدود علمي التي تصبح فيها بانكوك ونيودلهي والصين مراكز تجنيد العملاء بعد أن كنا نسمع تقليديا أنها في روما وباريس وأثينا . الحداثة الملعونة أفرزت لنا ظواهر خداعية عديدة في التلاعب بالعقول ، وصرف الوعي عن إدراك أو متابعة القضايا الجوهرية ، منها الاقتصادي كغسيل الأموال ، ومنها الإعلامي كغسيل السمعة ، ومنها السياسي كغسيل السياسات القذرة ، وأخشى أن تكون عمليات النفخ الواسعة في حكاية الجاسوس "الهندي" هي من ذلك النوع الأخير ، لا أشكك بالطبع في حقيقة أن يكون هذا الشاب عمل لحساب الموساد أو غيره فيقيني أن العدو لن يترك فرصة للاختراق إلا واستغلها ، ولكني أقصد النفخ في القصة وتضخيمها وتضخيم بطلها ومحاولة تسويق قصته الأسطورية بصورة لا يقبلها عقل ولا منطق ، بما يعني أن هناك أغراضا أخرى ، غير أمنية ، لهذا التسويق الإعلامي للقصة . لاحظت في الصحافة القومية وبعض الصحف الخاصة الملحقة بها رغم ادعاء الاستقلالية ، أن آلام المصريين من سرقة إرادتهم وتزوير أصواتهم واختطاف الشرعية بالتزوير والقمع ومحاولة فرض الأمر الواقع "بالجزمة" عليهم ، بدأت تختفي عمدا تحت زحف أخبار الجاسوس الهندي السوبر ، بل إن المثير للدهشة أن جهات رسمية أصبحت تلقي بصورة مكثفة بأخبار وتقارير وتحقيقات خاصة مع الجاسوس إلى بعض الصحف الخاصة قبل القومية من أجل "التخديم" عليها والتوسع في نشرها وإثارة أجواء الاستغراب وشد الأذهان إليها كمسلسل لا تبدو له نهاية حاليا ، ويبدو أنه مطلوب أن يستمر لعدة أسابيع حتى تهدأ خواطر المصريين الغاضبين من جريمة تزوير إرادة الأمة ، وحتى تتم محاصرة أخبار ذكرى "الجريمة" إعلاميا بعد أن أزعجت تلك التغطيات الصحفية والإعلامية قيادات الحزب الوطني وأجهزة رسمية في أعقاب الانتخابات . حاولوا في الأسابيع التي تلت الانتخابات مع القنوات الفضائية الخاصة والرسمية بالإيعاز إليهم بالتحول من تغطية الجدل المصاحب للتزوير ونتائج الانتخابات إلى الاهتمام بقضايا الفنانين وأخبار "الهشك بشك" في برامج التوك شو ، ويبدو أن التوجه فشل فخسرت البرامج وتراجعت القنوات ولم ينس الناس التزوير ، فأتت حكايات الجاسوس الهندي لعل وعسى أن تحقق المطلوب ، لكني أتصور أنها ستفشل هي الأخرى ، لأنه تم سلقها إعلاميا على عجل ، وبدأت تتسلل قناعات للناس بأننا أمام "فيلم هندي" . [email protected]