يستيقظ سلومون مونتجومري مبكرًا في أيام عمله، قبل ساعات من وقت الفجر، ويبدأ في الصلاة من أجل جنود الجيش الأمريكي، الذين من المنتظر أن يقوم على مساعدتهم طوال فترة عمله، هؤلاء الجنود الذين أصيبت أجسادهم بجراح خلال هجمات شنتها المقاومة في العراق، التي تناهض لإجلاء الاحتلال عن بلادها. ويظل مونتجومري يصلي كذلك من أجل عائلات الجنود الأمريكيين المصابين في العراق؛ من أجل تندمل جراحهم وآلامهم، لا سيما وأن نهر الدماء المتدفق في العراق لا يبدو أن له نهاية. وفي السابعة صباحًا يصل سلومون مونتجومري إلى مقر عمله في مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي، حيث تلوح ظلال حرب العراق الدامية مخيمة على كل مكان في داخل المركز، وسط آهات وصرخات الجنود الأمريكيين الجرحى العائدين من ساحات المعارك في العراق. ويبدأ مونتجومري عمله كمساعد في مجال العلاج الطبيعي، ويظل ساعة بعد ساعة في حالة احتكاك مع الجنود الذين أصيبوا في أدمغتهم، والذين يكون أغلبهم في سن قريبة من سنه الصغير. وتقول سوزان ليفين - محررة صحيفة واشنطن بوست-: إن الروتين اليومي المعتاد في مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي، وعلى مدار الأعوام الثلاثة الماضية، هو توالي وصول الجند الأمريكيين الجرحى والمصابين من العراق. وقد تطلبت تطورات الأوضاع في العراق وتوالي ورود الجرحى والمصابين مزيدًا من النشاطات الخاصة بالتعامل مع مختلف الحالات، حيث تقول إحدى الممرضات في داخل المركز: "لقد أصبح المعتاد الطبيعي بالنسبة لنا تواصل ورود الجنود الجرحى يوميًا". وتتحدث سوزان ليفين عن حقيقة أن وصول أعداد الجرحى من جنود الجيش الأمريكي، الذين يتلقون العلاج في مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي إلى أكثر من 1458 من أصل 4900 مريض، كانت له تأثيرات كبيرة على تغيير طبيعة الحياة في داخل تلك المؤسسة الطبية العسكرية. وتقول سوزان: إن التأثيرات تصل إلى حد شيوع حالة من الخسارة والإحباط وربما الانهيار داخل أوساط المئات من الأطباء والممرضين؛ بسبب كثرة احتكاكهم مع العديد من الجنود المصابين والجرحى. وتضيف محررة واشنطن بوست أنه منذ قتل أول جندي أمريكي في العراق في مارس عام 2003، ويشهد مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي حالات لا تعد ولا تحصى من عمليات بتر الأطراف وفتح الأحشاء وعمليات الجراحة الدماغية وغيرها، وكان جميع الجنود الذين تعرضوا لهذه العمليات العلاجية جراء إصابتهم بالجراح في ساحات القتال بالعراق من الشباب الأمريكيين الذين انتزعوا بحالاتهم المأساوية دموع وحزن الأطباء والممرضين، حيث ينظر الأطباء والممرضون إلى هؤلاء الجنود الأمريكيين ويرون فيهم أبناءهم وبناتهم وأصدقاء أبنائهم. ويقول النقيب ماثيو هويمان - وهو طبيب عسكري أمريكي يبلغ من العمر 31 عامًا أصيب بعض من يعرفهم بجراح أثناء الخدمة في العراق-: "هذا الأمر هو أبشع كابوس يواجهني دائمًا، وذلك عندما أضطر لعلاج أحد الجرحى ممن أعرفهم". وتقول سوزان ليفين: إنه وعلى بعد ستّة آلاف ميل من العراق - الذي يشهد هجمات بقذائف الهاون والقنابل اليدوية والعبوات الناسفة - يوجد داخل مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي نوع آخر من الصراع، حيث كانت الأمور في أول حرب العراق توحي بأن معدل وصول الجنود الأمريكيين الجرحى لن يكون كبيرًا، لكن بمرور الوقت بدأت الحافلات العسكرية تتوالى رحلاتها على المركز من قاعدة أندروز للقوات الجوية. ومع كل فتح باب لحافلة من هذه الحافلات تُنزِل الأسرة عليها الجنود الجرحى، الذين ربما لم تمرّ على إصابات الكثيرين منهم مدة تزيد عن 48 ساعة فقط. وتقول سوزان ليفين: إنه - ومع دخول الجنود الأمريكيين الذين أصيبوا في هجمات بالعراق إلى داخل غرفهم في مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي - تبدأ مهمة مايكل واجنير رئيس قسم المساعدة الطبية العائلية، والمسئول عن التعامل مع الحالات النفسية للجنود الجرحى وعائلاتهم. وعلى مدار عامين ونصف العام تعامل مايكل مع المئات من الجنود الأمريكيين الجرحى والآلاف من أفراد عائلاتهم، وفي أسابيع عمله الأولى كان يجد مهمة شاقة للغاية في البحث عن الكلمات المناسبة التي يمكن أن يتحدث بها مع الجنود الجرحى وعائلاتهم. ويقول مايكل: "في البداية كان الأمر صعبًا جدًا؛ لأنه إذا كان أمامك جندي فقد ساقه أو يده، فما الذي يمكن أن تقوله له، لكن بعد فترة أدركنا أن هناك حاجة ماسة للتعامل مع الجرحى وعائلاتهم بأسلوب طبيعي، حيث يكون هناك دومًا سؤال مبدئي وهو "كيف الأحوال" ثم نهيئ أنفسنا لامتصاص حالات الحزن والصدمة والألم؛ لأن من المهم جدًا أن نسمح لهم بالتعبير عما في نفوسهم". وتشير محررة واشنطن بوست إلى أن واجنير - البالغ من العمر 56 عامًا - هو عقيد متقاعد في الجيش الأمريكي، كان قد التحق به أثناء حرب فيتنام، ثم بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، سعى واجنير للتطوع ثانية في الخدمة، والتحق في النهاية بمركز والتر ريد، ثم انتقل من أريزونا ليتولى إدارة التعامل مع عائلات الجنود المصابين والجرحى في المركز، وخلال نشاطه في مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي انخرط واجنير في كل النشاطات التي تتعلق بمساعدة عائلات الجنود المصابين، لدرجة أنه في بعض الأحيان كانت لا تتوافر أماكن استضافة لأفراد عائلات الجنود المصابين وكان يتطوع واجنير بالذهاب إلى الفنادق القريبة من أجل توفير أماكن بدون تكاليف. ومع عمله في هذا المجال طوال اثنتي عشرة ساعة يوميًا، بدأ واجنير يشعر أخيرًا بالإرهاق، سواء النفسي أو البدني، ويقول: "لقد تعبت كثيرًا من رؤية الجرحى من أبنائنا، وهم يفدون على المركز شبابًا وبنات في مقتبل العمر، لكن أجسادهم ممزّقة ومصابة بعد ما لاقوه في العراق، إنني أشعر بأن الحمل زائد عليّ وأستشعر أنني أحترق من داخلي". ويؤكد واجنير أنه - وبعد أن نجح في الحصول على إجازة ليغير نمط حياته المرهق نفسيًا وعصبيًا - ذهب إلى مكان جميل ليستريح فيه.. يقول واجنير: "إنني أجد نفسي بشكل تلقائي أبحث عن أشخاص مبتورة أطرافهم حولي، من كثرة ما رأيت هذا المشهد في مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي، بحيث بات من الغريب ألا أرى هذه المناظر". أما كلاريسا نيكولز - الشابةالأمريكية البالغة من العمر 24 عامًا، والتي تخرّجت لتوها من مدرسة التمريض لتلتحق بالعمل في مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الأمريكي - فتؤكد أنها رأت جنودًا في سنها عظامهم مكسورة، والضمادات السميكة تغطي كل أجزاء أجسادهم، وتفوح منهم رائحة الصحراء التي كانوا يعيشون فيها ضمن وحداتهم العسكرية، وتعترف كلاريسا بأن التعامل مع هؤلاء الجنود الجرحى يجعل المشهد الدامي في العراق قريبًا جدًا منها. وتقول كلاريسا نيكولز: "إننا نتساءل: متى ينتهي كل هذا، فلقد عالج المركز حتى الآن أكثر من 323 حالة بتر أعضاء لجنود أصيبوا في العراق وأفغانستان، وقد رأيت مصرع أحد عشر من جنودنا بعد أن نقلوا إلى هنا وهم مصابون، وأتذكر أخي الصغير، الذي يبلغ من العمر 18 عامًا، والذي انضم إلى لقوات البحرية، وأخشى أن يواجه نفس المصير" المصدر : مفكرة الاسلام