ليس مجرد لقاء، فهو اللقاء الأول على إنفراد بين الرئيس والبابا، مما يؤكد على أن الرئيس، والذي كان يرفض اللقاء المباشر المنفرد مع القيادات الدينية، ويريد أن يكون خارج التوازنات الدينية، التي احترق السادات بنيرانها، أصبح طرفا رئيسا في التفاوض والتفاهم مع أهم قيادة دينية، أي البابا شنودة الثالث. وهو أهم قيادة دينية، لأنه القيادة الوحيدة التي سمح لها بالتمدد في فضاء الدين والسياسة معا، بعد أن منع الجميع خاصة الحركة الإسلامية من التمدد داخل الفضاء الديني والسياسي، وأصبح العمل السياسي المستند لقاعدة دينية حكرا على الكنيسة الأرثوذكسية، برغبة واضحة من النظام الحاكم. وعندما يرفع الرئيس مستوى عقد التفاهمات مع البابا، إلى المستوى الرئاسي، نفهم أن التفاهمات مع الكنيسة دخلت مرحلة إعادة التأسيس والمراجعة، مما جعل الرئيس يدخل طرفا مباشرا، بعد ما أشيع عن غضب البابا. ورغم أن غضب المعارضة كلها مما جرى في الانتخابات لم يدفع الرئيس للقاء المعارضة حتى العلمانية، ولا نقول الإسلامية، لأن لقاء الرئيس مع مرشد جماعة الإخوان المسلمين يعد من الأحلام المستحيلة، إلا عن غضب الكنيسة أو غضب البابا، وهو غضب مقدس، قد دفع الرئيس إلى التدخل، لأن الأوضاع لا تحتمل، أي أن الأوضاع في نظر الرئيس لا تحتمل لعبة الضغوط التي تمارسها الكنيسة بمهارة واضحة، فكان لابد من لقاء الرئيس والبابا. لأن الضغوط التي تمارسها المعارضة بكل أطيافها لا تؤثر على الحكم، أما الضغوط التي تمارسها الكنيسة فهي ذات أثر واضح، لأن الكنيسة أصبحت ضمن تحالف الحكم، واللقاء بين البابا والرئيس، جعل التحالف موقعا بخاتم رسمي. أما المعارضة فهي ليست ضمن تحالف الحكم، وحيث أن الحكم يلعب منفردا في المجال السياسي، فهو لا يقبل معارضة، بل يقبل الحلفاء فقط، ومنهم الكنيسة. والكنيسة أيضا جزء من تحالف أوسع بين النظام والدول الغربية الداعمة له، والداعمة لحقوق الأقليات ومنهم مسيحي مصر، لذا فالكنيسة جزء من ترتيبات السياسة الإقليمية والدولية، لأنها تمثل أقلية ينظر لها الغرب المهيمن بعين الاعتبار على أقل تقدير. لذا يصبح التحالف بين النظام والكنيسة، له أثر إيجابي على تحالف النظام مع الدول الغربية، ويمثل ورقة مهمة في علاقة النظام مع الغرب، حيث يقدم لهم في الملف القطبي، ما لا يستطيع تقديمه في ملف حقوق الإنسان أو الديمقراطية، إذا كان هناك ملف للديمقراطية مازال مفتوحا. ومع لقاء القمة بين الرئيس والبابا، تأكدت مكانة الكنيسة ودورها في نظر الأقباط، فبات لجوئهم للكنيسة أمرا مؤكدا في المستقبل، وبات وضعهم كطائفة سياسية، أمرا مسجلا في السجلات الرسمية للدولة، بعد لقاء ممثل الطائفة السياسية، برأس الدولة. ولا يمكن إلا أن نتوقع المزيد من خروج الأقباط من المجال العام، والمزيد من الدخول إلى الكنيسة، والمزيد من العودة إلى دخول المجال العام، ولكن من بوابة الكنيسة، وتحت قيادة البابا. ومن الواضح أن الرئيس طلب التهدئة من البابا، ومعنى هذا أن التصعيد من قبل البابا له تأثيره، والتهدئة المطلوبة ترتبط بالمرحلة الحرجة التي تمر بها مصر، خاصة بعد إقصاء كل المعارضة السياسية، ولم تبقى إلا الصراعات داخل شبكة المصالح الحاكمة، والمعارضة التي تأتي من الكنيسة، والتي تمثل الكيان الوحيد المستقل عن شبكة الحكم، وربما مستقل أيضا عن الدولة، ومتحالف في الوقت نفسه مع الحكم، لذا فهو يعارض أحيانا، ويؤيد أحيانا أخرى. وهذا اللقاء يكشف أيضا، على أن الدولة ممثلة في الرئيس مازالت تريد الاستمرار في سياسة تبادل المصالح مع الكنيسة، ومع الأقباط من خلال الكنيسة، لذا يمكن أن تقدم الدولة بعض ما تطالب به الكنيسة، خاصة القانون الموحد للأحوال الشخصية للمسيحيين، وهو مطلب عادل، بجانب تهدئة من الدولة تنهي ملف العمرانية خارج إطار القانون، أما مسألة القانون الموحد لدور العبادة، فالغالب أن الدولة لن تدخل في تلك المسألة، لأنها يمكن أن تتحول إلى قنبلة موقوتة، فتحقيق العدل والتوازن بين بناء دور العبادة للمسلمين والمسيحيين، طبقا للواقع والاحتياج، ليس أمرا هينا، والغالب أن ما قد يعتبره المسلم عادلا لن يعتبره المسيحي كذلك، لذا فالغالب أن هذا القانون سوف يظل حبيس الأدراج. ولكن الأهم من ذلك، أن التفاهمات بين الدولة والكنيسة والتي وصلت لمرحلة توتر ظاهر، قد اكتسبت عمقا جديدا، بعد أن أصبحت تفاهمات مباشرة بين رأس الدولة ورأس الكنيسة، مما يساعد على بقاء تلك التفاهمات وتهدئة الأجواء. ومن الواضح أن الدولة شعرت بأنها معرضة لمخاطر متعددة، خاصة بعد إقصاء كل المعارضة، مما جعلها تسارع إلى تهدئة الكنيسة، حتى لا تصبح الكنيسة طرفا يضيف المزيد من التوتر على الأجواء العامة. ومع سياسة الإقصاء الكامل تجاه الحركة الإسلامية، أصبحت الكنيسة تمثل حضورا سياسيا دينيا طائفيا للأقباط، في مقابل الإقصاء الكامل للحركة الإسلامية، مما يجعل الدولة معادية للمرجعية الإسلامية، ولكنها ليست معادية لكل فعل سياسي يستند لبعد ديني. ومن الواضح الآن، أن التفاهم بين الكنيسة والدولة لا يرتبط فقط بتحقيق المطالب العلنية للكنيسة، ولكن يرتبط أساسا بدور الدولة في منع الحركات الإسلامية من الوصول إلى الحكم، مما يجعل تأييد الكنيسة باسم الأقباط للنخبة الحاكمة، هو ثمن في مقابل أن تلك النخبة تمنع الحركة الإسلامية من الوصول للحكم، لذا فإن تقديم أثمان أخرى من جانب الدولة إلى الكنيسة، يرتبط بالظروف العامة والتدخل الغربي وغيرها من العوامل، أما الثمن الرئيس لتأييد الكنيسة للنخبة الحاكمة، فقد دفع بالفعل لأن الدولة تقصي الحركة الإسلامية عن المجال السياسي، رغم أنها لا تفعل ذلك من أجل الكنيسة أو الأقباط، ولا حتى من أجل الغرب، بل تفعل ذلك أساسا حتى تبقى في الحكم. أما الثمن الحقيقي الذي سوف تدفعه الكنيسة ومعها الأقباط، فهو خروج الجماعة القبطية من إطار الجماعة الوطنية المصرية، فأصبح لها وضع خاص وظروف خاصة، ومشكلات خاصة، وتوقعات خاصة، ثم أصبح لها هوية خاصة ووعي خاص، فأصبحت حالة خاصة خارج إطار الوعي السائد في الوطن.