في إحدى الوثائق التي سربها موقع "ويكيليكس" هذا الأسبوع قال السفير الأمريكي في تونس في برقية إلى وزارة الخارجية أن خلافا نشب بين السيدة سها عرفات أرملة الرئيس الفلسطيني السابق ، وبين السيدة ليلى حرم الرئيس زين العابدين بن علي رئيس تونس انتهى إلى صدور قرار من الرئيس التونسي بسحب الجنسية التونسية من "سها" ومصادرة اثنين مليون ونصف المليون يورو من أموالها المودعة في البنوك التونسية وطردها نهائيا من تونس . الواقعة معروفة منذ ثلاث سنوات تقريبا 2007، لأن الناس قرأت ما نشر عنها كقرار سيادي تونسي يتعلق بالمصالح التونسية العليا ، وقد سببت الواقعة صدمة وحيرة كبيرة وقتها ، لأن السيدة "سها عرفات" كانت تحظى بمكانة رفيعة في تونس ومع بيت الرئيس نفسه وهم الذين دعوها للإقامة في تونس ومنحها الجنسية وجواز السفر وكانت صديقة شخصية للسيدة ليلى حرم الرئيس ، وبالتالي احتار الناس في سبب هذا الانقلاب المفاجئ ضد أرملة الرئيس عرفات ، لكن أحدا لم يكن يعرف شيئا عن جوهر المشكلة وسببها المباشر ، حتى قرأنا الوثيقة التي كشفت عن أن جوهر المشكلة أن السيدة سها دخلت في شراكة "بيزنس" مع السيدة ليلي حرم الرئيس التونسي ، وأنشأوا مدارس خاصة راقية لنخبة المجتمع وأثريائه ، ويبدو أن "سها" تحفظت على بعض تصرفات حرم الرئيس وهو ما فهمت منه أنها تشكك في ذمتها المالية ، فوقع بعض الجدل الساخن بين الاثنتين ، فغضبت عليها حرم الرئيس وطلبت من الرئيس طردها من البلاد وسحب الجنسية التونسية منها ، والتي لم يمض عليها أكثر من عام واحد ، وزيادة في التشفي أوعزت للرئيس بمصادرة ما لها من أموال في البنوك التونسية فصادروا اثنين مليون ونصف المليون يورو ، وفي الغالب سيكون القرار قد تم تكييفه عن طريق المدعي العام الاشتراكي أو ما يوازيه عندهم أو النائب العام أو ما شابه من قنوات "قانونية" ، ثم صدر قرار طرد "سها" من تونس نهائيا . الواقعة المثيرة والتي حكتها بالتفاصيل سهى عرفات للسفير الأمريكي في لقاء جمع بينهما ، تكشف إلى أي مدى يمثل نفوذ "حرم الرئيس" بحسم في توجيه القرارات وحمل أجهزة الدولة ومؤسساتها على تنفيذ إجراءات غامضة لا يعرف أحد ولا حتى من وقعوا عليها معنى لها ولا سببا ، ولكنهم ينفذون التوجيهات العليا كما وصلتهم ، وتمثل زوجات الرؤساء في العالم العربي تقليديا نفوذا كبيرا في توجيه القرارات وأحيانا وضع استراتيجيات سياسية ومستقبلية ، على الرغم من أن الزوجات ليس لهن أي صفة دستورية تسمح لهن باتخاذ القرار أو التوجيه به ، ولكن العالم العربي يعرف ظاهرة ازدواجية الدساتير دائما ، فهناك دستور مكتوب وهناك دستور شفهي ، والدستور المكتوب هو ما يجري به انتظام دولاب العمل الروتيني في الدولة وتنسيق شبكة الوظائف البيروقراطية بما فيها القضاء التي تحفظ للدولة شكلها وبنيانها أمام المواطنين وخدماتهم ، وهناك الدستور الشفهي الذي يعرفه جميع من في الدولة وهو رأي رئيس الدولة أو حاكمها ورؤيته وإرادته ورغبته التي لا يسأل عنها ولا يراجع في أسبابها ولا يطلب منه لها تفسير ، إذ لا يوجد من يجرؤ على ذلك في عموم دولته ، وهذا الدستور الشفهي هو النافذ والناجز على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها وقياداتها ، كما أنه الناسخ لأي قرار أو حكم أو قاعدة حتى لو كانت موجودة في الدستور المكتوب للدولة . وفي إطار هذه الازدواجية تستمد زوجات الرؤساء سلطاتهن ، من الدستور الشفهي وليس المكتوب ، وهي سلطة قاهرة ومخيفة ، تجعل طلباتها أو مجرد إشارتها أوامر سيادية عليا ، وتجعل لشخصيتها وحضورها هيبة لدى أكبر رؤوس الدولة ، ويمشي في ركابها الوزراء وكبار المسؤولين في جلال ووقار لا يجرؤ أحدهم أن يتقدم خطوتها بشبر والكل يتلهف همسة منها أو إشارة أو توجيه ، ولا بد من الالتزام التام بتنفيذ توجيهاتها وتسخير أجهزة الدولة ومؤسساتها لتحقيق رؤيتها ورأيها وخدمة طموحاتها دون سؤال عن مشروعية دستورية أو قانونية أو غير ذلك من الكلام "الهايف" الذي يتشدق به عادة الحقوقيون ورجال السياسة وأحزاب المعارضة ، ومن يتلكأ في تنفيذ توجيهاتها مجرد تلكؤ حيث لا يوجد من يعترض أصلا يتم طرده خارج الوزارة إن كان وزيرا أو من رأس مؤسسته أيا كانت ، هذا إذا رحمته ولم تقدمه إلى "العدالة" وهي جاهزة على كل حال لتأديبه ، لأن الغالب أن ملفاتهم تكون مترعة بما يمكن أن يحاكموا بسببه ، غير أن الحماية المسبوغة من الدستور الشفهي تكفي لتحصينهم وتحصين أنجالهم من بعدهم . وفي العادة لا تستطيع الشعوب أن تجد تفسيرا لبعض المواقف أو الإجراءات الغامضة التي تحدث في الدولة إلا بعد أن ينتهي عصر الزعيم فيسقط دستوره الشفهي ويجرؤ البعض على كشف طرف من الحقائق ، غير أن الأخ "جوليان أسانج" الله يحفظه ، أكرمنا هذه المرة بالكشف عن طرف من الحقيقة ، رغم أنف الدستور الشفهي في تونس . [email protected]