اختتمت مقالي أمس بأن "العلمانية" .. دين .. شأنها شأن الاديان الأخرى لها نظرة شاملة وعامة للكون والحياة وطريقة تفكير .. وليست فقط منهجا سياسيا يفصل ما بين الدين والدولة .. وقلت إنها تتأسس على فكرة "تغييب الله" عن حركة الكون والحياة من ألفها إلى يائها . وإذا شئنا أن نستوعب هذا الانطباع عن العلمانية باعتبارها "دينا" و"عقيدة" حاكمة في رؤى الإنسان وتصوراته وتفسيراته لحركة الحياة . .. فما علينا إلا أن نشير على سبيل المثال إلى الفارق بين نظرية التطور وحتمية "التناقض" عند هيجل والتطور وحتمية "الصراع" عند ماركس من جهة ... ونظرية التطور والحتمية عند ابن خلدون من جهة اخرى. فالتطور والحتمية عند هيجل وتلميذه ماركس ... مطلقة ومستقلة عن الله عز وجل .. بل إنه سبحانه غير موجود بالمرة ... بينما عند بن خلدون فإن الحتمية مرتبطة بمشيئة الله وليست مطلقة بل قابلة للتغيير والتبديل ... إذ إن هيجل وماركس ينتميان إلى أوروبا العلمانية التي حل فيها "العقل" عند الأول و"المادة" عند الثاني محل الله .. بينما ابن خلدون هو ابن الثقافة الاسلامية التي ترتكز على أن الله هو خالق ومالك العقل والمادة ومالك كل شئ وبيده ملكوت السموات والأرض ... فالحتمية عند ابن خلدون "طبيعية وحق " ولكنها ليست مطلقة وإنما تتغير بالتدخل الالهي .. ولم يكن رأي ابن خلدون رأيا مجردا .. إذ كان رحمه الله تجريبيا ينزل بنظريته إلى الواقع ليعززها بالتجارب والخبرات التاريخية الإنسانية . منذ عام مضى قدم باحث مسلم واستاذ في العلوم الاقتصادية بجامعة الازهر ، دراسة لإحدى المؤتمرات العلمية الذي عقد بالجامعة عن "قيمة الدعاء في التنمية الاقتصادية " .. وبمجرد أن نشر الخبر في تغطيات الصحفيين لأعمال الندوة .. إلا وهاج العلمانيون واشبعوا الرجل "تريقة" وتندروا عليه ... وطالب سيد ياسين في مقاله الاسبوعي في الاهرام بمعاقبة الاستاذ "الغيبي" أو اقالته من الجامعة . رغم أن دراسة عن دور الدعاء طلبا للبركة في الرزق ومصادره لاتثير عادة انتباه أو استياء اي مسلم سليم الايمان وصحيح العقيدة .. أو ملم بثقافة ولو محدودة بأمور دينه ... غير أن الدراسة التي اشرت اليها فيما تقدم .. اثارت غضب وحنق "العلمانيين" . .. حتى أن سيد ياسين ذكّر الاستاذ صاحب البحث .. بأن اليابان تقدمت اقتصاديا من غير أن يرفع واحد من الشعب الياباني يده متضرعا إلى الله ! المشكلة هنا ليست فيما كتبه الباحث عن "الدعاء" ... ولكنها فيما تظهره من أن العلماني أيا كان وجوده ، لايقبل لله وجودا في حياته . .. ! لقد تهكم الشاعر العراقي المعروف "جميل الزهاوي " على العثمانيين لأنهم كانوا يخصصون ميزانية للانفاق على تلاوة "صحيح البخاري" في كل سفينة ينتهوا من بنائها تبركا برسول الله صلى الله عليه وسلم .فكتب متهكما قائلا "إن السفن تجري بالبخار وليس بالبخاري " ! قد تتفق أو تختلف فيما نحى نحوه العثمانيون .. غير أن المشهد يفصح بجلاء كراهية العلماني لكل ما يتصل بما يعكس ايمانا بوجود الله في حياة الانسان . قد يغضب البعض من كلامي ... ويقول لاتسرف ولاتغالي ... ولاتتهم الناس وتشق قلوبهم وتفتش في نياتهم .... لا يا سيدي أنا لا أشق الصدور ولاأكشف المستور هم يعترفون بذلك واقرأ ان شئت قول الزهاوي نفسه : لما عجزت عن حل المشكلات ...... وأقمت نفسك في مقام معلل أوجدت ربا تبتغي حلا به ........... للمشكلات فكان أكبر مشكل [email protected]