في مصر الآن حالة من العصبية الشديدة تسود أجواء البلاد, انتقلت من الصالونات والفضائيات وقاعات الأحزاب وصفحات الجرائد والمجلات الى الشوارع والبيوت وأماكن العمل وفي وسائل المواصلات .. لم يعد خافيا على أحد تصدع بعض العائلات وانفصال بعض الزيجات وتبادل الشتائم بين أقرب الأقرباء..لم يعد في مصر حوار بل شقاق وتنابذ وتحريض وعنف وتنكيل.. إن السلام المجتمعي في خطر, والحد الأدنى من تماسك المجتمع لم يعد موجودا, ولو نظرنا الى خلاف صغير بين بعض الناس ونرى كيف يتطور (بسبب العصبية والشحن المكبوت) الى شجار وقتال سندرك صعوبة ما نحن فيه ..قد يري بعضنا أن هذا نوع من التهويل, وقد يراه أخرون انعكاسا لحقائق موجودة .. وهذا الخلاف في الإدراك أحد أهم جوانب المشكلة .. ويبدو أننا جميعا قد فرطنا في ثوابتنا وانحزنا الى المشاعر البدائية البغيضة في الثأر والانتقام والشجار والعنف ..فلم يعد كثير من المسلمين رحماء ببعضهم بعضا ( ورسالة نبيهم ما كانت إلا رحمة للعالمين), وفرط كثير من المسيحيين في قيم المسيح الذي كان يدعو الى محبة الأعداء ومباركة اللاعنين, ولم يعد الكبير ( مالا أو جاها أو سلطانا) يعطف على الصغير ( الأقل مالا أو جاها أو سلطانا ) , ولم يعد الليبرالي ليبراليا , ولم يعد الاشتراكي اشتراكيا, ولم يعد كثير من السلفييين (على نهج السلف الصالح) ولم يعد كثير من الإخوان (على نهج البنا ) ولم يعد الجيش متفرغا لحماية الحدود, ولم تعد الشرطة في خدمة الشعب, وتأثرت مؤسسات العدالة ناهيك عن الإعلام الذي يؤجج المشاعر ويساهم في اشعال الحرائق !! والكل يشكو , والكل يتبادل الاتهامات, والكل يلقي باللائمة على الأخر, وغاب الحكماء أو غُيبوا فلم يعد يستدعيهم أحد.. هل من هدنة ؟ إذا تجاوزنا في التعبير" الى السقف" وقلنا أن ما يحدث في مصر كالذي يحدث بين الأعداء في ميدان القتال, واعتبرناها حربا لا خلافا, ألا يدفعنا ذلك الى التماس ما يحدث في الحروب؟ ألا تقوم الجيوش المتحاربة بهدنة, ألا يجلس الأعداء في نهاية الأمر على طاولة الحوار أو النقاش أو التفاوض ..ألم نعقد معاهدة سلام مع الصهاينة ؟ ألم يجلس الفرقاء في الحرب العالمية معا في نهاية الأمر؟ أليس ما بيننا (كشعب واحد)أوثق وأكبر وأعمق مما بين الأعداء؟ هل نحن بحاجة الى مزيد من الدم والعنف والشقاق المجتمعي والتصدع حتى نصل الى ذلك ؟ إذا كانت الأطراف المتصارعة لا يمكن لأي منها أن تبادر بالدعوة الى هدنة أو حوار أو تفاوض, فهل من حكيم أو حكماء يقومون بجدية ودأب بها , ويعلنون للدنيا بأسرها من يعاند ومن يكابر ومن يرفض؟ إن لم ينفع حكماء الداخل فهل نحن بحاجة الى (طائف) جديدة كالتي أنهت الحرب الاهلية في لبنان؟ وبعد الهدنة إعذار نحن بحاجة الى اعذار بعضنا بعضا وتفهم توجس الأطراف المتصارعة , ولن يكون ذلك إلا بتنحية المتطرفين في الجانبين جانبا, ولعل لنا في التاريخ عبرة نفهم منه بعض معاني الإعذار فيعذر بعضنا بعضا.. لقد كان موسى عليه السلام من أولى العزم من الرسل, كلفه ربه بمواجهة فرعون, فشعر بالخوف فطمأنه ربه : [ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه ].. وكانت المواجهة الأولى ثم كانت الثانية بحضور السحرة وما أتوا به من سحر... فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) طه. كان سحرا عظيما وضخما أنسى موسى أنه الأقوى" بمعية ربه", فأعاد عليه ربه مرة أخرى : لا تخف إنك أنت الأعلى.. وقفات : 1/ إن من الناس الآن من لا يقدرون خوف بعضهم .. فعليهم أن يتذكروا أن الله قد ذكّر بها موسى أكثر من مرة لإزالة ما في نفسه من خوف .. والناس الآن يخافون ويتوجسون أيضا ويشككون في نوايا بعضهم بعضا.. ولذلك اختاروا المواجهة . 2/ أن موسى قد تأثر بسحر السحرة حتى أصبح تصوره " أن الحبال والعصي تتحرك" (على غير الحقيقة).. فما بال بعضنا لا يعذر من تأثر بسحر سحرة اليوم؟ وخاصة أن الناس ليس لديهم ما كان لموسى من قوة وإيمان وصلة مباشرة بربه .. لذلك نحن بحاجة الى اعادة النظر في تصوراتنا لما ولمن حولنا وبيننا لعلنا لم ندرك الأمر على حقيقته بسبب سحرة لا يريدون لبني الأوطان خيرا فأوقعونا في بعضنا البعض .. 3/ إن تفهم خوف الخائفين, وتفهم خداع المخدوعين يجعلنا أكثر ادراكا لما يجب علينا فعله (كالدعوة وزيادة الوعي والحلم والحوار مع الناس والرحمة بهم ( ويجنبنا الاكتفاء بوصف الناس أنهم كذا وكذا ,ومن ثم لا سبيل إلا الخلاص منهم !! إن مصر اليوم بحاجة الى من يقدم لها حلولا للتلاقي على طريق المصالحة بأكثر مما هي تحتاج الى تبادل اللوم والاتهام والتخوين والتكفير والاقصاء .. فمن يفعلها وله شرفي الدنيا والأخرة , فيعصم الناس ويحقن الدماء, لتحقيق شراكة وطنية تحقق الأهداف ووتتجاوز ما في طريق الوطن من عثرات ؟ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.