مثل كثير من المواقف التي تفجرت مؤخرا بفعل غشومية السلطة وتخبطها وعنادها ، فتجد نفسها وقد صنعت مأزقها وحفرت حفرتها بنفسها لتسقط فيها باختيارها ، تحولت قضية حبس تلميذات الاسكندرية أحد عشر عاما إلى فضيحة للنظام كله ، والجميع يبحث عن مخرج منها بأي سبيل ، وبما يحفظ ماء وجه الدولة ومؤسساتها ، الرئاسة تبحث إصدار عفو رئاسي عن الفتيات والنيابة تبحث تجميد النائب العام للتنفيذ لحين تسوية الأمور في الاستئناف ، والببلاوي يهرب من أجهزة الإعلام المحلية والأجنبية التي تطارده للسؤال عن الفتيات ، تشعر بأن من تم سجنه هي السلطة ورجالها وأدواتها ، وليس هؤلاء الفتيات اللاتي ربما لا يستوعبن حتى الآن هذا الذي يحدث ، ولا يصدقن أن هناك قضاءا في مصر حكم عليهن بالسجن أحد عشر عاما لأنهن حملن البلاليين وشارات رابعة وتظاهرن تأييدا للرئيس المعزول ، السلطة كلها مسجونة الآن في سجن العار هذا ، والذين يبحثون عن قرار عاجل بالإفراج عن الفتيات وإطلاق سراحهن يبحثون في الحقيقة عن إطلاق سراح السلطة من السجن السياسي والأخلاقي والإنساني الذي جعل وجهها في الوحل أمام العالم كله ، وأصبح من الصعب أن تحدث العالم عن العدالة والقضاء الشامخ في مصر أو أن تحدثهم عن أن مصر في طريقها للديمقراطية فضلا عن أن تقنعهم بأن ما حدث ليس انقلابا عسكريا . فضيحة سجن فتيات الثانوي تأتي لتؤكد حجم التخبط والفوضى وتحول البلاد إلى غابة ، أو ساحة لتصفية حسابات سياسية وكل واحد يفعل ما بدا له ، والحديث عن سيادة القانون واحترام الشرعية وحرمة العدالة لم يعد يقنع أحدا ، حتى القائمين عليها ، ولم تمض سوى ساعات على ما كتبته أمس عن مؤشرات انهيار الدولة حتى وقعت حادثة الصدام المثير بين الشرطة والقضاء في طنطا ، وقعوا في بعض ، عندما استوقف كمين شرطة سيارة بها وكيل نيابة ، هذا كل ما نعرفه كواقعة متفق عليها ، أما بعد ذلك فالنيابة لها رواية والشرطة لها رواية أخرى ، وأحدهما كاذب بكل تأكيد ومزور للروايات ، لكن المشكلة هنا أنه لا يوجد طرف ثالث يكون ضحية للتنسيق بين الاثنين ، وإنما الضحية أحدهما ، النيابة قالت أن الشرطة تعدت على وكيل النيابة بالقول والفعل وكلبشته كأي مجرم رغم اطلاعهم على هويته الرسمية ، والشرطة تقول أن وكيل النيابة كان في سيارة مسروقة ومعه مسجل خطر مطلوب لتنفيذ حكم بالسجن وأنه اعتدى على الضباط ولم يكشف عن بطاقته ، وانتقل الجميع لمديرية الأمن فخطف وكيل النيابة الكلابشات لتحريزها ، وتضامن معه زملاؤه في النيابة وأصدر المحامي العام في طنطا قرارا بحبس ثلاثة ضباط ، فما كان من الضباط إلا أن قالوا له : بل قرارك واشرب ميته ، لن نسجن زملاءنا ، وتظاهر الضباط وأمناء الشرطة في مجمع المحاكم واعتصموا هناك بالعشرات ، والمؤكد أن الببلاوي سيستخرج لهم تصريحا لاحقا بالتظاهر لحفظ ماء وجهه هو والناصري الشهير حسام عيسى ، الذين شنفوا آذاننا بالحديث عن الشرعية والقانون الذي لا بد أن ينفذ على الجميع ، وفي اليوم التالي قررت الشرطة في طنطا تأديب النيابة والقضاء بسحب الحراسات والحماية الأمنية من المحاكم والنيابات ، ثم تظاهروا مجددا الليلة ، حيث تجري محاولات مكثفة بين وزارة الداخلية والنائب العام ووزير العدل لاحتواء الفضيحة . من نعم الله على ثوار يناير ، منذ الأيام الأولى للثورة قبل ثلاث سنوات ، أنهم يقابلون سلطات حكم غشيمة ومتغطرسة وحاصلة على شهادات عليا في العند ، وهو ما يساعد الثوار دائما على الانتصار رغم الضغوط والتحدي الكبير ، لأن العناد في العمل السياسي هو طريق الهلاك الحتمي ، وحازم الببلاوي وحكومته من هذا الصنف ، أعلن تحديه للجميع وتمسكه بقانون التظاهر ، رغم إجماع الداخل والخارج على أنه كارثة ، ولن يستطيع تطبيقه ، فضلا عن كونه قانونا ضد الحريات وضد منطق الأشياء في بلد ما زال يعيش حراكا ثوريا ويشعر ثواره أنهم لم يحققوا أي شيء من أهداف ثورتهم ، بينما هناك سلطة تقول أنها أتت باسم الثورة وتظاهراتها وتريد أن تقمع أي حراك ثوري أو تظاهر إلا بإذنها هي ، وتستهبل بمقارنات مضحكة مع قوانين في دول استقرت مؤسساتها ومجتمعاتها وقوانينها ونظمها وعدالتها ورفاهية شعبها منذ خمسين عاما أو أكثر . يلفت انتباهي في هذه المطحنة ، أن الفريق السيسي والرتب الضخمة التي ظهرت معه في بيانه الشهير وهو يتحدث عن الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه ، يلفت انتباهي اختفاؤه الكامل من المشهد ، رغم أن القناعة التامة داخل مصر وخارجها أن الجنرالات هم أصحاب القرار الفعلي في الدولة حاليا ، فما هو سر الاختفاء الطوعي ، فيما يفكرون ، وماذا ينتوون .. اللهم اجعله خير .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1