إذا نظرت إلى خريطة مصر عن قرب أكثر، ستجد أن رب العالمين قد وهب مصر قلبا نابضا غنيا ألا وهو نهر النيل، وليس هذا فحسب، بل كانت الصحراء التي تحيط بوادي النيل من كل مكان بمثابة المصفاة أو الغربال الذي يصفي الهجمات على هذا القلب الغني ويعطي مصر نطاقا لحماية قلبها الغني، إذن أعطى النيل مصر عنصر البناء و أعطت الصحراء مصر عنصر الحماية. وهذا الوادي النهري بامتداده العميق ليس مجرد شريطا ساحليا ضيقا تسهل السيطرة عليه وتقسيمه، كما قامت الحملات الصليبية بتقسيم ولايات الشام في حملاتها على العالم الإسلامي، بل أعطى هذا الامتداد عمقا استراتيجيا هاما لمصر فالوادي يمتد لمسافة 1200 كم تقريبا، هذا العمق الاستراتيجي يجعل مهمة المهاجم أكثر صعوبة، إذ لابد له من خوض حربا ضروسا حتى يمكنه السيطرة على مفتاح واد بهذا العمق. وليس ذلك فحسب، بل أن وجود هذا الوادي النهري وفر مجالا لوجود تجمع سكاني كبير حوله مما جعل مصر هي المستودع الاستراتيجي البشري للعالم الإسلامي. وأصبحت مصر عن حق هي أرض الكنانة، و الكنانة هي جعبة الأسهم (وإن كان الحديث لا يصح). كل هذه العوامل جعلت كلمة العوام مصر "المحروسة" تصدق عليها إلى حد كبير. فالمحروسة قد حرسها الله بما يسر لها من أسباب القوة، فلله الحمد والمنة. بالإضافة إلى ذلك، هذه الكتلة البشرية و الموقع الوسيط لمصر في قلب العالم الإسلامي جعل مصر و بحق قلب العالم الإسلامي، وشعلته الفكرية. وليس ذلك تحيزا لجنس ولكنه تأثير الموقع الفريد الذي وهبه الله لمصر. إذن يمكنك أن تقول أن مصر هي مفتاح المنطقة العربية، و المنطقة العربية هي مفتاح العالم الإسلامي فكريا وعسكريا على حد سواء. وبعد أن انتهت السلسلة الأولى من الحملات الصليبية، وعى الغزاة الدرس جيدا. فمصر هي مفتاح العالم الإسلامي، واحتلال أجزاء من المنطقة مع بقاء مصر الكنانة ومصر المحروسة يعني أن الاحتلال لن يدوم وستكون أيامه عسيرة. ولذلك كان لابد من الوصول إلى مصر عسكريا و فكريا وتوجيها لخدمة المشروع الاستعماري. ومصر منذ قدم التاريخ هي كيان موحد إلا في لحظات محدودة من عمر التاريخ، وذلك لطبيعتها النهرية الجارية التي تجعل من الصعب أن يسيطر أحد على جزء منها دون جزء، فعندها يمكن عزله مائيا حتى يموت عطشا أو إغراقه كما تم مع بعض الحملات الصليبية. و ذلك بعكس بعض البلاد الأخرى التي تعتمد على مياه الأمطار بشكل أساسي. ولقد قيل في هذا الصدد إن المشكلة في الاستيلاء على مصر ليس غزوها وإنما الوصول إليها. ومن هنا كان لابد لنا من دراسة مفاتيح مصر وتأمينها جيدا. وكنت قد تكلمت في مقال سابق "هل تصمد سيناء أمام الأطماع الصهيونية" عما يمكن فعله بالمتاح من الأسباب للدفاع عن سيناء مفتاح مصر من جهة الشرق. ونخصص المقال القادم (بإذن الله) للحديث عن مفتاح مصر من جهة الغرب وكيف يمكن الدفاع عنه. ختاما أحب أن أؤكد أن المؤمنين إخوة، وأن الحديث عن أهمية مصر الاستراتيجية ليس المقصود به أبدا إلا بناء أمتنا الإسلامية، و يبقى دائما شعارنا قول الله تعالى : (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) والله من وراء القصد والنية. محمد نصر