ويعرض البشري لنماذج أخرى مما يجسد خروج الكنيسة عن حدود ولايتها الدينية على الأقباط إلى ممارستها السلطة الدنيوية في القضاء والشرطة وكذلك تحول الكنائس إلى مقرات إعلامية وإدارية وغير ذلك فيقول : (ونحن نعرف أن وفاء قسطنطين احتجزت وأودعت فى أحد أديرة وادى النطرون، كما ذكر ذلك بعض رجال الكنيسة انفسهم فى سنة 2004، وان كاميليا فى سنة 2010 (سواء كانت أسلمت أو بقيت على مسيحيتها فهى مواطنة مصرية) أودعت أيضا أحد هذه الأمكنة. وفى هذا ممارسة لسلطة سياسية، أو بالأقل سلطة إدارية، وكلاهما من الناحية القانونية يعتبر سلطة عامة ليست مخولة للكنيسة فى النظام المصرى. ونحن نعرف مثلا أن دير ماريوحنا الكائن بصحراء طريق القاهرةوالسويس عند الكيلو 30 والبالغة مساحته مائة فدان، تبث منه قناة أغابى الفضائية ويحتوى على أماكن إدارتها، كما خصص فيه مساحة أربعة أفدنة لمركز إعلامى مزمع إنشاؤه، وان القناة الفضائية CTV التى انشأها رجل الأعمال الأستاذ ثروت باسيلى وكيل المجلس المللى، تبث برامجها من خلال كنيسة العذراء مريم بمدينة السلام. (مجلة الإذاعة والتليفزيون 11/7/2009 ص38، مجلة آخر ساعة 3/6/2009 ص36)، وهى قنوات يقتصر البث منها على البرامج الدينية، ولكن وجه الملاحظة ان إدارة الإعلام ومراكزه والمقار التى يبث منها، هى أمور إدارية لا تتعلق بالجوانب العقائدية والعبادية التى تمارس فى الكنائس والأديرة، ومع ذلك أودعت هذه المهام بدور العبادة لتكون تحت السيطرة الكنسية المنفردة. وإن الملاحظ ان الأديرة تتوسع فى حيازة الأرض الصحراوية أو المستصلحة وضمها إليها فى نطاق أسوار الدير، وهذا ما حدث مثلا لدير الأنبا انطونيوس على ساحل البحر الأحمر إذ استحوذ على 1500 فدان ضمت ضمن أسواره. وكذلك دير طريق مصر السويس وغيرهما كدير الساحل الشمالى) ويرى البشري أن هذه الوضعية الجديدة للكنيسة ، بموافقة ضمنية من الدولة ، تعيد إلى الأذهان نظام الملة الذي كان متبعا في بعض العصور الإسلامية ، خاصة العصر العثماني ، وهو المتهم من الأقباط أنفسهم ، ويعتبر البشري أن التمسح بهذا النظام ومحاولة نسبته للإسلام ينتهي بالكنيسة إلى أن تؤسس للدولة الدينية فعلا ، وتدفع المجتمع كله إلى الفرز على هذا الأساس ، يقول الفقيه القانوني الجليل : ((إن هذا الوضع يعود بنا إلى نظام الملة الذى عرفه المجتمع الإسلامى قديما، بحسبان أن طائفة ما هى ما يدير شئون نفسه بنفسه بواسطة من تراهم من رجالها، حسب التنظيم الداخلى الذى تفرضه عليهم الاعراف المتبعة لديهم، وهو يعزل هذه الجماعة عن جمهور الناس فى البلد الذى يحيون فيه، إنه نوع من الإدارة الذاتية لشئون هذه الجماعة بلا أرض متميزة تسكنها وتقيم عليها. وهو لا تتاح له أرض محددة تكفى لتقيم فيها الجماعة الشعبية المعينه، ولكنه يحتاج «لأماكن» محدودة لا لإقامة الجماعة أو الجمهور، ولكن لتكون مجالا مكانيا لتمارس فيها سلطة صاحب القرار، بحيث ينفرد صاحب القرار بالنفوذ والسطوة عليها.) ثم يعلق البشري ، وهو صاحب جهد فكري تاريخي كبير في محاولة صياغة جامعة وطنية تشمل عناصر المجتمع المصري ، محذرا من أن هذا التوجه يهدم تاريخا كاملا من الجهاد الفكري والسياسي من أجل تحقيق مبدأ المواطنة ، ويقول : (لقد جاهدنا جهادا تاريخيا بمسلمينا ومسيحيينا على طول القرنين التاسع عشر والعشرين، لكى نتجاوز نظام الملة وننشئ الجماعة الوطنية المصرية بما يكون لدولتها من هيمنة على جميع المواطنين بها وبالتساوى فى المعاملة، سواء فى الشئون الخاصة أو شئون الولايات العامة. ولقد جاهد المسلمون منا فى التجديد فى الفقه الإسلامى بما يسع مفهوم الجماعة الوطنية وأوضاع المساواة الكاملة فى الولايات الخاصة والعامة وفى فرصها، وإن اختلفت الأديان... وبعد ان استقر هذا الوضع كأصول ثابتة فى الفكر السياسى السائد لدى النخب المعبرة عن الرأى العام الفعال والفكر الراجح لديه، فوجئنا من بعض القائمين على الادارة الكنسية، بمن يريد العودة من جديد لنظام الملة ويسنده إلى أسس إسلامية يراها جديرة بالاتباع ... إن تصريحات المسئولين عن الكنيسة القبطية بمصر فى الآونة الأخيرة، والتصريح بعدم الخضوع للقوانين وللقضاء المصرى إلا ما كان موافقا لما تراه الكنيسة رأى المسيحية فى كل حالة، إن من شأن ذلك على مدى زمن ما إن يخرج جماعة من المصريين من مجال الجماعة الوطنية العامة، كما أن الاستشهاد فى هذه التصريحات الانعزالية بفقه الشريعة الإسلامية، ... من شأنه أن يعيد نظام الملة إلى سابق عهده، وهو يخرج عن مفهوم المواطنة الذى نرفعه عبر أجيال مضت وتجىء ونقيمه على أسس نظرية وشرعية يقوم بها الاندماج الحياتى بين المصريين جميعا. لقد بذلنا الجهود ليتسع الفقه الإسلامى لاستيعاب مفهوم الجماعة الوطنية بالمساواة الكاملة بين مكوناتها، فإذا جاء اليوم فى تصريحات هؤلاء المسئولين ما يعيد نظام الملة) ثم يختم البشري دراسته المهمة بتحذير الكنيسة من الارتكان إلى الدعم الأمريكي والتحريض الذي تمارسه قوى ومؤسسات أمريكية للأقباط لتأليبهم على مجتمعهم ووطنهم مصر ، معتبرا أن هذه لعبة أمريكية خالصة ليس لمصالح الأقباط وإنما لمصالح أمريكية سياسية مصلحتها الأساسية تفتيت المجتمع المصري ، ثم لمصالح دينية أيضا تبحث عن مواطئ أقدام في مصر لنشر مذاهبهم المسيحية المهددة لوجود الكنيسة الأرثوذكسية ذاتها ، والبشري برفقه المعهود ، يلمح ولا يصرح ، ويقول : (وإذا كانت الكنيسة القبطية، كما عبر عن ذلك بعض مسئوليها، تشتكى من نشاط بعثات التبشير الأمريكى بين اتباع الأرثوذكسية المصرية، فعليهم أن يدركوا من ذلك أن السياسة الأمريكية، إن بدا فيها ما يؤيد موقف الانعزال القبطى فى مصر، فهى إنما تريد من ذلك الأثر المفكك للجماعة الوطنية وليس محض الصالح القبطى، لأنهم بطريق آخر يعملون على خلخلة التماسك الأرثوذكسى القبطى بالتبشير بين أبنائه وليس هذا الموقف جديدا. وإن الرجوع إلى نشاط البعثات الأمريكية فى مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر شاهد على ذلك (يراجع كتابى (عن المسلمين والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية)، وإن أمن قبط مصر هو بين ذويهم فى مصر.. ألا هل بلغت اللهم فاشهد والحمد لله) انتهى كلام البشري ، ونحن أيضا نشهد أنه بلغ نصيحته بأمانة وإخلاص . [email protected]